يطالب مشرعون ينتمون إلى الحزبين الديمقراطي والجمهوري ومن مجلسي النواب والشيوخ معاً، بإبطال بعض أجزاء من قانون «دود- فرانك» تطالب البنوك بفصل أنشطة التداول في المشتقات المالية في فروع ومنشآت منفصلة تتمتع برؤوس أموال خاصة بها.

Ad

  بعد وقت قصير من انتشار الأزمة المالية في شتى أنحاء العالم كما الوباء الكاسح، قام قادة العالم بتطوير ما ظنوه علاجاً ناجعاً وترياقاً سينزع السم من الجسد المالي العالمي.

ومن خلال عملهم عبر مجموعة العشرين G20، اتفقوا على قواعد عامة تشمل الشركات المالية كافة بغض النظر عن مواقع عملها وأين تدير أنشطتها، وقد ذهب التفكير لديهم إلى أن هذا النظام العالمي سينطوي على مخاطر أقل إذا جرى التعامل مع أسواق المشتقات المالية- وهي أسواق تتسم بالغموض وعدم الشفافية ورؤوس الأموال بها تبلغ 639 تريليون دولار- شأنها شأن تداولات الأسهم والسندات في بورصات الأوراق المالية.

وذهب تفكير القادة أيضا إلى أنه إذا توافر المزيد من رؤوس الأموال لدى البنوك العملاقة، فإن ذلك سيمكنها من استيعاب الخسائر وتجنيب دافعي الضرائب مثل تلك المخاطر.

واعتقد هؤلاء القادة كذلك أنه إذا جرى تشديد الإجراءات والقواعد المنظمة لعمل صناديق الاستثمار في أسواق المال العالمية وغيرها من الأنظمة الخفية العاملة في الأجهزة المصرفية، فإن ذلك سيقلص حتماً من المخاطر غير الظاهرة مستقبلاً.

تلافي العدوى

ومنذ تلك الاتفاقية التي أبرمها قادة مجموعة الـ(20) في سنة 2008، فإن مسار الترابط والاندماج شهد تقدماً، ومثال على ذلك: ففي 11 مارس أصبح يتعين على أكبر بنوك وول ستريت بما فيها "غولدمان ساكس" و"جي بي مورغان تشيس" إجراء تداولات أسواق المشتقات المالية عبر غرف المقاصة، وهو إنجاز حققه قانون الإصلاح المالي "دود– فرانك" في سنة 2010، الذي هو نفسه جزء من تعهد الولايات المتحدة بتحقيق التكامل والتلاحم المالي.

وبتدخل غرف المقاصة بين البائع والمشتري أصبح بوسعنا تلافي انتقال عدوى تخلف أحد المتعاملين إلى بقية العملاء. كما أن الاتحاد الأوروبي قرر في شهر ديسمبر وضع هيئة تنظيمية مصرفية واحدة.

غير أن تكامل القطاع المالي يظل مجرد حلم، إذ إن تضارب القوانين الوطنية والاقليمية والأنظمة ومعايير المحاسبة حالت دون تقدم العالم على طريق الإصلاح المالي. بل إنه ذلك التضارب تسبب في الإضرار بقدرة المنظمين على العمل الإقليمي عبر الحدود من أجل مواجهة الأزمات المالية التالية، كما أن إغلاق أحد البنوك الفاشلة، الذي فقد كل رؤوس أمواله نتيجة تبنيه استراتيجية تداول رديئة، لم يعد ممكناً من دون وجود قوانين عالمية لإيجاد حلول لتفكيك البنوك العليلة والواهنة. علاوة على ذلك، فإن الشركات المالية سيكون لديها القدرة على الاستفادة من التفاوت في النظم الحاكمة بأن تقوم بنقل عملياتها وأنشطتها إلى دول تتيح قدراً أكبر من المرونة والتيسيرات.

كسر احتكار البنوك

فماذا حدث؟... دعونا نقم بجولة في أسواق المال العالمية للتعرف على حقيقة ما يجري، في الولايات المتحدة تعرض المنظمون إلى عقبات أوقفت مسيرتهم. لم يكن عليهم أن يذكروا اسم أي مؤسسة مالية غير مصرفية أو صناعية وأن ينعتوها بأنها تنطوي على أي مخاطر منهجية، على الرغم من الحجم الهائل والأدوار الجوهرية التي تلعبها صناديق أسواق المال، وصناديق التحوط، وشركات التأمين، وجهات الإقراض غير المصرفية.

كما أن "مجلس تعاملات التعاقدات الآجلة للسلع" تراجع عن بعض مواقفه السابقة المتعلقة بأسواق المشتقات المالية، وهي خطوات كان بوسعها كسر احتكار البنوك الكبرى على صفقات وتداولات المبادلات في أسواق التعاقدات الآجلة السلعية. وكان على هذا المجلس أن يلغي اقتراحاً تقدم به لإلزام كبار المستثمرين بضرورة الحصول على طلبات تسعير من خمسة تجار أو متعاملين على الأقل، هو الإجراء الذي كان سيعزز شفافية الخطوات التي تسبق عمليات تسعير الصفقات التجارية.

قاعدة فولكر

علاوة على ذلك فقد أوقفت الوكالات التنظيمية "قاعدة فولكر"- التي سميت نسبة إلى رئيس مجلس الاحتياطي الفدرالي (البنك المركزي) الأميركي، بول فولكر- التي اقترحت الحد من المضاربات التي تقوم بها المصارف المضمونة على المستوى الفدرالي. ولمدة تزيد على العام، ظلت خمس وكالات تنظيمية تتجادل بعضها بعضاً من ناحية، ومع البنوك الكبرى من ناحية أخرى، لتحديد الخط الفاصل بين التداول وإيجاد أسواق للعملاء وهي الجزئية المعفاة قانوناً بموجب قاعدة فولكر".

وفي الوقت نفسه، ومن داخل مبنى الكابيتول، يطالب مشرعون ينتمون إلى الحزبين الديمقراطي والجمهوري على حد سواء ومن مجلسي النواب والشيوخ معاً، بإبطال بعض الأجزاء من قانون "دود- فرانك" التي تطالب البنوك بأن تفصل أنشطتها الخاصة بالتداول في المشتقات المالية في فروع ومنشآت منفصلة تتمتع برؤوس أموال خاصة بها.

الشرخ الكبير

وفي أوروبا تتسم الحالة بالقدر ذاته من الريبة إزاء فرص النجاح، فالوضع هناك ليس أسعد حالاً، بعدما طرأ انقسام حاد بين القارة  والمملكة المتحدة. فخلال الأسابيع القليلة الماضية، تحرك البرلمان الأوروبي وبعض الحكومات الوطنية نحو فرض ضريبة على الصفقات المالية إضافة إلى وضع حدود قصوى لمكافآت المصرفيين. وقد أزعج ذلك التحرك البريطانيين لأن نموذجهم المالي المعروف بالموديل "الأنغلو- ساكسوني"، الأقل تنظيماً والذي ينصب أكثر على الاهتمام بالتداول ودفع مكافآت أعلى للمصرفيين مقارنة بدول أخرى مثل فرنسا أو ألمانيا.

وهناك شرخ آخر آخذ في الاتساع بين أوروبا وأميركا يتعلق بمتطلبات رأس المال، وفي مدينة بازل السويسرية بدأت بواكير القواعد المنظمة الجديدة بالظهور بعد مماطلات كثيرة شهدتها تلك المسألة. وظهر في النسخة الأولية المكتوبة أن مستوى المتطلبات الرأسمالية المحتسبة على الأصول ذات المخاطر المرجحة حدد بنسبة 7 في المئة مقارنة بنسبة 2 في المئة وفق القواعد السارية. ولا تزال تلك النسبة الجديدة المقترحة أقل قليلاً من المستوى الذي تسعى إليه الولايات المتحدة التي حددته بـ10 في المئة، وأقل كثيراً من مستوى 20 في المئة الذي أوصى به الخبراء الاقتصاديون والأكاديميون. تتصدر فرنسا وألمانيا مقاعد المعارضين لذلك في إطار مساعيهما لحماية كبار المقرضين لديهما لأنهم سيتحملون أعباءً رأسمالية تزيد على ما يتحمله منافسوهم الأجانب.

خلاصة القول إن النظام المالي العالمي لم يعد أقل أماناً عما كان عليه في سنة 2008 فحسب، بل من الواضح أيضاً أن مشروع التكامل العالمي يتعرض لضرر شديد يؤدي إلى توقفه بالكامل أيضاً... فهل يتحول مساره من "التكامل العظيم" إلى "الانحراف العظيم"؟!