سياسة المخاطر الأخلاقية
إنه خلاف قديم لا ينتهي أبداً... فعلى جانب هناك المخاطر الأخلاقية الملحة التي ترى أن واحدة من المسؤوليات الكبرى التي تواجه صانعي السياسات تتلخص في إيجاد الحوافز التي تثبت أن السلوك الطائش لا يفيد. وعلى الجانب الآخر هناك أنصار الاستقرار المالي، الذين يرون أن الثقة بالنظام المالي أغلى كثيراً من أن تُعَرَّض للخطر، حتى في ظل أحسن النوايا على الإطلاق. كانت قبرص هي ساحة المعركة الأخيرة بن المعسكرين... ففي الخامس والعشرين من مارس، وبعد اتخاذ القرار بتصفية ثاني أكبر بنك في البلاد، وفرض خسائر كبيرة على أصحاب الودائع غير المؤمن عليهم في هذه العملية، أعلن رئيس مجموعة اليورو، وزير المالية الهولندي يروين ديسلبلوم، أن القطاع المالي الصحيح البنية يفرض "ضرورة التعامل مع المجازفات حيثما تقرر خوضها". وأضاف أن الهدف لا بد أن يتلخص في خلق البيئة حيث "لا يحتاج وزراء المالية الأوروبيون أبداً إلى إعادة التمويل المباشر" لأي بنك عن طريق آلية الاستقرار الأوروبي، ومن الواضح أنه كان يقرأ من كتاب أكاديمي يتحدث عن المخاطر الأخلاقية.ولكن بعد هذا الإعلان مباشرة، انخفضت أسعار أسهم بنوك منطقة اليورو، واتهم ديسلبلوم من قِبَل كثيرين (بما في ذلك بعض زملائه) بصب الزيت على النار. وفي غضون ساعات أصدر بياناً أوضح فيه أن "قبرص حالة خاصة تواجه تحديات استثنائية"، وأنه "لا توجد قوالب مستخدمة" في التعامل مع الأزمة الأوروبية. بيد أن هذا لم يكن مقنعاً، فالأسواق تتعلم من الأزمة الحالية ما هي نوعية المبادئ التي سيتم تطبيقها على الأزمة التالية، ولا شك أن السماح لها بأن تتعلم هو على وجه التحديد ما تدور حوله المعركة الجارية بشأن المخاطر الأخلاقية. كان صانعو السياسة الأوروبية في عذاب مقيم بسبب نفس المعضلة طيلة فترة الأزمة القبرصية، كما أن عبء إنقاذ المؤسسات المالية المتعثرة في البلاد كان أشد وطأة بالنسبة إلى دولة قبرص المثقلة بالديون بالفعل، وكان صندوق النقد الدولي شديد الإصرار على أنه لن يدعي خلاف ذلك. لذا، ففي منتصف مارس، كانت قبرص تتجه إلى تقليص نظامها المصرفي بشكل حاد وهو أمر أسفر عن خسارة جزء كبير للغاية من ثروة البلاد المالية. أما بالنسبة إلى صندوق النقد الدولي وألمانيا، اللذين دفعا إلى هذه النتيجة، فإن المنطق الذي استندت إليه تصرفاتهما كان هو الحاجة إلى منع المخاطر الأخلاقية. وكان الرئيس القبرصي نيكوس أناستاسياديس، ببعض الدعم من المؤسسات الأوروبية، يحاول يائساً تجنب هذا المصير- باسم الاستقرار المالي. وكان الحل الذي تم التوصل إليه في ليلة الخامس عشر من مارس- فرض ضريبة لمرة واحدة على الودائع- قابلاً للدفاع عنه من المنظور القبرصي. فكان الحفاظ على الاستقرار المالي المحلي يتطلب الحد من الضرائب على الودائع الكبيرة، لأن نسبة كبيرة كانت تنتمي إلى أصحاب حسابات أجنبية. وبالتالي فإن تجنب سحب كميات هائلة من رؤوس الأموال الأجنبية يعني فرض ضريبة على كل الودائع الأقل من 100 ألف يورو (130 ألف دولار أميركي). وفي ظل غياب خطة إنقاذ أجنبية فلم يكن هناك أي حل آخر متاحاً. لكن تلك الحال كانت مضرة بالاستقرار المالي في بقية أوروبا، لأنها أشارت إلى أن عتبة المئة ألف يورو عتبة ضمان الودائع التي دونها لم تكن مقدسة. ومن الناحية القانونية فإن هذه الضمانة بطبيعة الحال لا تساوي أكثر من قدرة الضامن على سداد ديونه- والضامن في هذه الحالة هي دولة قبرص شبه المفلسة. ورغم ذلك فإن إبطال مثل تلك الضمانات سيكون له تأثير قوي من الناحية الرمزية ومن شأنه أن يثير قلقاً كبيراً أنحاء أوروبا المختلفة.
وتلخص السبيل الواضح للخروج من هذه المعضلة في تحمل شركاء قبرص في منطقة اليورو لتكاليف الضريبة على الودائع الأقل من 100 ألف يورو. وكان القيام بهذا سيكلفهم ما يقدر بنحو 1.3 مليار يورو، أو ما يقرب من 0.01% من الناتج المحلي الإجمالي لبلدانهم- وهو ثمن بخس في مقابل الاستقرار المالي، وما كان هذا الحل ليخلق قدراً كبيراً من الخطر الأخلاقي: فالضريبة تفرض على الودائع الكبيرة، وعلى الحكومة القبرصية أن تظل في معاناتها بسبب القيود التي يفرضها برنامج صندوق النقد الدولي/منطقة اليورو- وهو دواء مر بالقدر الكافي. لكن في الوقت الذي شعر مواطنو شمال أوروبا بالاستياء الشديد من البنوك والغضب إزاء التحويلات إلى الجنوب، فإن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل وأقرانها لم تكن لديهم الرغبة في مطالبة دافعي الضرائب في بلدانهم أن يتحملوا سداد ثمن أخطاء دولة أخرى شريكة.لم يكن اتفاق الخامس عشر من مارس قابلاً للتطبيق على المستوى السياسي، كما قوبل بالرفض بأغلبية ساحقة في البرلمان القبرصي. لذا، فبعد عشرة أيام من اقتراح هذا الحل المشؤوم، غير وزراء المجموعة الأوروبية مسارهم وتبنوا النهج الذي حاولوا تجنبه... والآن يجري حل البنوك باندفاع. والعواقب واضحة بالفعل: ففي محاولة لتجنب الانهيار الكامل، أرغمت قبرص على فرض ضوابط على رأس المال- التي تصور الجميع أنها غير قانونية ولا يمكن تصورها داخل منطقة اليورو. ونتيجة لهذا فقد تعلم المستثمرون والمودعون أن إقامة الحواجز المالية داخل منطقة العملة الموحدة تشكل خطراً حقيقياً. ويشعر القبارصة الآن بالغضب الشديد من أوروبا حتى إن الخروج المتعمد من منطقة اليورو أصبح احتمالاً واضحاً. وفي نهاية المطاف، فإن الخلاف المتبقي الحقيقي لم يعد بين المخاطر الأخلاقية والاستقرار المالي بقدر ما أصبح بين الحلول المعقولة مالية والمقبولة سياسياً. وفي أوروبا، كما هي الحال في أماكن أخرى من العالم، كانت السياسة المالية مهمة المتخصصين- محافظي البنوك المركزية، والهيئات والجهات التنظيمية والإشرافية. ولكن الحال تبدلت: حيث فقد الخبراء شرعيتهم. فاليوم أصبح زمام الأمر بيد المواطنين الغاضبين، وباتت السياسة هي التي تحرك السياسة المالية. ولكن السياسة في أوروبا وطنية، وما يعتبره أحد البرلمانات الوطنية الحل الوحيد المحتمل فقد ينظر إليه برلمان وطني آخر باعتباره غير مقبول بالمرة. ويبدو أن أوروبا لم تتوصل بعد إلى استجابة مناسبة لهذه المشكلة، وهي لا تقترب من التوصل منها.* جان بيساني فيري | Jean Pisani-Ferry ، أستاذ بكلية هيرتي للحوكمة (برلين) ومعهد العلوم السياسية (باريس) وهو يشغل حالياً منصب المفوض العام لإدارة الاستراتيجية الفرنسية، وهي مؤسسة استشارية سياسية عامة. «بروجيكت سنديكيت، 2017» بالاتفاق مع «الجريدة»