أكتب تلك السطور من سلطنة عمان، التي بدا أن الحراك السياسي النادر، الذي شهدته في العامين الأخيرين، في أعقاب حركات التغيير الحادة في بعض البلدان العربية، وجد طريقاً للتبلور في عملية سياسية واجتماعية واقتصادية، تقبل بـ"الإصلاح" المتدرج المحسوب، تحت عنوان "الحوكمة"، بدلا من "التغيير" الجذري السريع، بداعي "الدمقرطة".

Ad

تأتي زيارتي إلى آخر سلطنة في العالم العربي، في ختام جولة شملت عدداً من عواصم الخليج، التي لاتزال تحبس أنفاسها في متابعة لاهثة لما يجري في بلدان "التغيير العربي"، حيث تُظهر أنظمتها قدراً محسوساً من "التجاوب المحسوب" مع المتغيرات، في ما تبدو شعوبها أكثر قناعة بـ"الإصلاح التدريجي" من أي وقت مضى على مدى العامين الفائتين.

استطاعت الحكومة العمانية أن تتعامل بحكمة مع الحراك المفاجئ الذي كانت "انتفاضات" تونس ومصر واليمن مصدر إلهامه الرئيس، وبسبب الدعم الخليجي السخي والواضح؛ فقد أمكن معالجة احتقانات سياسية مزمنة عبر تغييرات محسوبة طالت عدداً من المسؤولين، وسياسات استهدفت الإيحاء بتوسيع رقعة المشاركة العامة في صناعة القرار، كما أمكن احتواء "المد الشبابي" المبرر عبر عشرات الآلاف من الوظائف، في وقت تكفلت فيه بعض التقديمات الاقتصادية والاجتماعية والوعود باستعادة الهدوء الذي جلل المشهد العماني على مدى أربعة عقود من عمر تلك الدولة العريقة.

الأمر كان أصعب في البحرين من دون شك؛ فتلك الدولة بالذات هي الأكثر قابلية للتجاذب والضغوط الخارجية بين دول الخليج العربية من جهة، كما أن أوضاعها السياسية تعكس القدر الأكبر من عدم الاستقرار في مواجهة مطالب داخلية معظمها عادل ووجيه من جهة أخرى.

استطاعت المنظومة الخليجية، بقيادة السعودية، أن توفر ما يمكن وصفه بـ"شبكة أمان" سريعة وجريئة وفعالة للحفاظ على استقرار الأوضاع في البحرين؛ وهي الشبكة التي انطوت على حزم من التدخل الأمني الحاسم، والدعم السياسي المفتوح والملح، والمساعدات المالية الضخمة، والمعالجة الإعلامية الحاذقة.

الكويت أيضاً شهدت حراكاً سياسياً لافتاً، على الرغم من أنها الدولة الأكثر اتساقاً مع الاستحقاقات الديمقراطية الدولية، والمجتمع الأكثر ديناميكية وانفتاحاً سياسياً، وقد أمكن، بشكل أو بآخر، استيعاب هذا الحراك، بالوسائل السياسية التقليدية نفسها، التي طالما كانت قادرة على تجاوز كثير من الصدمات والمفاجآت.

يبقى أن قطر تقف وحيدة، بمنأى عن أي ضغوط أو حراك، بسبب انطوائها على الحالة المثلى التي تزيد فيها عوائد النفط عن أي مطالب اقتصادية أو اجتماعية، ويقل فيها الزخم السياسي والاجتماعي عن الحد الأدنى المطلوب لرفع المطالب أو إنشاء الحوار العام، وتتعاظم خلالها أدوار السياسية الخارجية لتسحب الانتباه عن أي شأن داخلي.

أما الإمارات؛ فقد أظهرت أكبر قدر من الارتياب والقلق قياساً بإرهاصات بدت قليلة ومتباعدة وغير منتظمة، ورغم عدم وجود أسانيد واضحة معلنة لما تقول إنه محاولة متكاملة لاستهدافها؛ فإنها بدت الأعلى صوتاً في مقارعة تلك الإرهاصات، والأكثر حدة في محاولة احتوائها، حتى لو كلفها ذلك ممارسة سلوكيات في السياسة الخارجية لم تعهدها على مدى أكثر من أربعة عقود من الأداء الدبلوماسي المحسوب والهادئ.

وعلى عكس الإمارات تماماً، لم تخرج السعودية عن هدوئها المعهود، ولا ارتكانها إلى الإدارة السياسية الكتومة لما بدا أنه بوادر حراك اتخذ في بعض الأحيان منحى طائفياً، وهدد في أحيان أخرى باحتمال التوسع، على قاعدة من المطالب العادلة والمشروعة.

ثمة خبر جيد لدول الخليج العربية، باسثناء قطر بالطبع، في ما يتعلق بهواجسها ومخاوفها حيال "التغيير العربي" الذي ضرب أنظمة عدة في المنطقة؛ فقد بات "الإخوان المسلمون" يحكمون في القاهرة وتونس، وقد أبلوا أسوأ بلاء.

يقدم حكم حركة "النهضة" في تونس، وجماعة "الإخوان" في مصر أفضل الذرائع لأنظمة الخليج العربية لإقناع شعوبها بأن "الإصلاح التدريجي"، من خلال حوار اجتماعي هادئ سيكون أفضل من "التغيير الحاد" من خلال "انتفاضات" أو حراك سياسي واسع.

ويعطي السلفيون في مصر وتونس وليبيا، وربما سورية، لأنظمة دول الخليج العربية أفضل الذرائع لإقناع شعوبها بأن "المد الإسلاموي" الراهن في دول المنطقة ليس سوى "مزيج من الظلامية والفاشية والتنطع والخطل".

سارعت دول الخليج العربية إلى انتهاج سياسات فعالة لمواجهة إرهاصات الحراك الذي نشأ في أكثر من دولة منها؛ فتدخلت أمنياً، وقدمت اقتصادياً، وانحازت اجتماعياً، ونسقت سياسياً، لكن كل ما قدمته في هذا الصدد لم يكن قادراً وحده على احتواء تلك الإرهاصات.

لقد قدم إسلاميو مصر وتونس وليبيا وسورية لأنظمة دول الخليج العربية أكبر دعم ممكن في هذا الصدد؛ فقد كانت تجاربهم السياسية مريرة إلى حد مروع، وفاشلة إلى حد محبط، وغير قابلة لإعادة الإنتاج، رغم قصر المدة التي تولوا فيها مقاليد الأمور في بعض بلدان المنطقة.

يعطي أداء الرئيس مرسي في مصر أفضل الذرائع للحكومات الخليجية لإقناع شعوبها بجدوى التغيير الإصلاحي المحسوب، ويحبط طموحات "إسلاميي الخليج" إلى أقصى درجة ممكنة، ويفقدهم الاعتبار الأخلاقي في مطالبتهم بالديمقراطية.

لا ينازع أحد أنظمة دول الخليج العربية في شرعيتها حتى هذه اللحظة، لكن حجم المطالب السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تطرحها معظم الشعوب الخليجية كبير ومعظمه عادل وضروري.

ولا يعطي حكم "الإخوان المسلمين" في مصر وتونس فرصة للاقتداء به في دول عربية أخرى، لكنه لا يكفي وحده للتعامل مع المطالب الشعبية الخليجية المتصاعدة والمتجددة.

ستكون دول الخليج أكثر حظاً من دول "التغيير" العربية الأخرى إذا قطعت أنظمتها خطوات أوسع وأكثر انفتاحاً نحو "حوكمة" تحقق المزيد من العدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وتخضع الأداء العام للتقييم، وتزيد من مشاركة المواطنين في صنع السياسة العامة. وستكون الشعوب الخليجية أكثر فطنة، إذا واصلت المطالبة بـ"الإصلاح"، وتعلمت من تجارب الآخرين، الذين وقعوا فريسة لخدعة كبيرة، تم استخدام الدين فيها لسرقة طموحات الشعوب... والدين منها براء.

* كاتب مصري