لا أظن أن الحديث في المقالة السابقة عن وضع المرأة مطلع القرن العشرين هو من قبيل الإفاضة الزائدة أو الاستطراد المُخل. وإنما أراه أرضية لازمة لتصور الواقع الحقيقي الذي سينهض عليه المشهد الشعري النسوي، والذي لا شك سوف يستقي سماته وملامحه من هذه الأرضية.

Ad

إن متغيرات النهضة الأدبية في مطلع القرن العشرين رغم زخمها واندفاعتها الجادة نحو تغيير المشهد الشعري آنذاك، ورغم جهودها الواضحة في الخروج من نفق الركود وظلمة عصر الانحطاط، إلا أن دور المرأة فيها ظل باهتاً وضئيلاً. ففي الوقت الذي دشّن فيه البارودي مدرسته الإحيائية، وأعاد للغة الشعرية دماءها وعنفوانها، وفي الوقت الذي تألق فيه أحمد شوقي وحافظ إبراهيم ومعروف الرصافي وصدقي الزهاوي وغيرهم من شعراء العربية، وارتيدت بفضلهم آفاق جديدة في الشعر كالشعر الاجتماعي والشعر الوطني والشعر القصصي، بقيت أسماء النساء من الشاعرات نادرة ومتفرقة، وأشبه ما تكون بالأمثلة النافرة التي لم تستدع كبير التفات أو اهتمام. إن أسماء مثل وردة اليازجي (1838م – 1945م)، وعائشة التيمورية (1840م – 1902م)، وملك حفني ناصف (باحثة البادية) (1886م – 1918م)، بقيت خفِرة ومترددة ومتقشفة في ظهورها ومقلّة في إنتاجها. فوردة اليازجي وعائشة التيمورية ليس لأية منهما غير ديوان واحد متواضع، وهما على الترتيب "حديقة الورد" و"حلية الطراز". أما باحثة البادية فليس لها من الشعر غير المتفرق في الصحف، وقد هجرت الشعر إلى النثر في نهاية المطاف وانصرفت إلى كتابة المقالات الاجتماعية.

هذا الخَفَر والخفوت في الصوت الشعري عند هؤلاء النساء آنذاك كان يقابله صوت أكثر جهوريةً واقتحاماً وحضوراً، وهو صوت الفحولة الذي ظل متسيّداً وفارضاً للكثير من قيمه وتوجهاته. فالفخر والغزل والفروسية ظل من ضمن ما ورثه البارودي عن أسلافه، وأغراض المديح والرثاء والوصف بقيت بضاعة رائجة لدى أحمد شوقي، أما ما استجد من موضوعات كالشعر الاجتماعي والشعر الوطني والشعر القصصي فقد أُسبغت عليه أيضاً وصاية الرجل وصورته ولغته. ولعله من الطريف أن نذكر أن الشعر الاجتماعي رغم خوضه في معظمه في قضايا المرأة وهمومها كالفقر والطلاق وقضايا التعليم والحجاب... إلخ إلا أن أفضل نماذجه وأكثرها تداولاً كان من شعر الرجال لا النساء! وهذا بحد ذاته يدل على مفارقة تستدعي التأمل والتساؤل!

ولعل تساؤلنا لا يطول حين نتأمل في المشهد عن قرب. فنرى في البدء حرج الوضع الثقافي أمام مسمى "شاعرة" و"شعر" في نفوس نساء لاتزال تحاصرهن التقاليد والمخاوف وتابوهات الكتابة. فحين تكتب وردة اليازجي في الشعر الوجداني، فإنها توجهه إلى إحدى صديقاتها مجاراة لتقاليد المجتمع! وكذلك احتالت عائشة التيمورية على مشاعرها حين بثت أشواقها بلسان الرجل. أما باحثة البادية فقد أضنتها الحيرة إزاء قضية نسائية صرفة، وهي قضية السفور والحجاب، فلم تجد بداً من الممالأة حيناً، والتحرّز من الجهر برأيها تقيةً وخشيةً حيناً آخر فقالت:

هل تطلبون من الفتاة سفورها         حسن! ولكن أين بينكمُ التقي

لا تتقي الفتيات كشف وجوهها        لكن فساد الطبع منكم تتقي

والطريف أن هذا الخوف من الجهر بالرأي لا يخص غير كشف الوجه لا غير، وهو أمر أباحه الشرع الحنيف!

أما التخفي وراء الأسماء المستعارة، وهو لون آخر من الحجاب، فقد أصبح ظاهرة من ظواهر الكتابة النسائية لعله يعود في جذوره إلى جدتهن الخنساء، فالخنساء لم يكن هذا اسمها ولكنه لقب تحجّبت به، واسمها الحقيقي "تماضر"، وهو اسم لم يك مسموحاً تداوله بين الناس. وعلى غراره نجد "باحثة البادية": ملك حفني ناصف، "بنت الشاطئ": عائشة عبدالرحمن، "مي زيادة": ماري زيادة، ولاحقاً "دنانير": فدوى طوقان... إلخ. بل إن في "مي زيادة" يتبدى الخوف الأكثر حيرةً وتساؤلاً رغم جرأتها الظاهرية وصالونها الأدبي. فهي تكتب حيناً باسم "ميّ"، وحيناً باستعارتها لاسم رجل، أما إذا كتبت الشعر فتكتبه بالفرنسية (اللغة الأكثر حريةً وانفتاحاً) رغم نبوغها بالعربية! في مقابل هذه الأسماء الحيية المتخفية بالأقماط والحُجُب، تبرز أسماء الشعراء من الرجال سافرةً معتزّة، بل ومتزينة بالألقاب التي تزيد أصواتها رسوخاً وحضوراً، كلقب "أمير الشعراء" و"شاعر النيل" و"شاعر الشعب"... إلخ.