من الذاكرة: «الحجي»

نشر في 19-07-2013
آخر تحديث 19-07-2013 | 00:01
 صالح القلاب ذلك الصباح الباكر، من بداية فصل الربيع، كانت برودته لاذعة تشرخ العظم، أدخل يده اليمنى في جيب ثوبه، الذي بعد أن كان أبيض أصبح أحوى، انحنى حتى كادت لحيته الذرياء تلامس ركبته. حاول أن يصل بأصابع يده، التي تنتهي بأظفار طويلة لون نهاياتها فحمي أسود، إلى المنطقة المتوسطة من أعلى ظهره. عصر نفسه نحو الأسفل بقوة إلى أن وصل اصبعه الأوسط إلى النتوء المُتحرشف، فنكشه نكشات سريعة متلاحقة أراحته من تلك الحكة اللعينة.

تنحنح بقليل من الافتعال لينبه زوجته التي كانت تنشغل بإخراج "السِّخال" من "الدَّن"... نظرت إليه الزوجة بعينين قلقتين من ثقل السنوات والعمل الشاق المتلاحق، فأومأ إليها بأنه يريد أن يتناول إفطاره قبل مغادرة بيت الشعر لتفقد مروج القمح الخضراء والأغنام التي خرج بها الراعي قبل ذلك بساعات. أحضرت إليه أم سويلم "ثِفَالَ" الخبز وطاسة متوسطة الحجم من اللبن. أخرج يده من عُبِّه بعد أن أنهى هرش إبطه الأيسر وخاصرته اليمنى، وتناول أول رغيف فقسمه مناصفة، وبسرعة البرق أصبح نصف الرغيف في فمه والنصف الآخر في الطريق إلى شدقيه الواسعين، وبيده اليسرى تناول طاسة اللبن فكرع منها ثلاث كرعات متلاحقة، وهكذا إلى أن أتى على ثفال الخبز وطاسة اللبن.

تجشأ... ثم تجشأ وحمد الله على نعمته ومسح شاربيه ولحيته الذرياء بطرف عباءته... ونهض ثم اتجه نحو فرسه، التي كانت أصيلة وغدت "كديشة" تحمل أثر "الكِدَّانة" فوق منكبها وعلى صدرها الذي لم يعد عريضاً كما كان أيام ميادين السباق والعز، والتي كانت تتسلى بقضم بقايا نباتات "الأرْث" التي مرت عليها أسنان وأضلاف كثيرة.

ارتقى ظهر فرسه بتثاقل وانطلق عبر منحدر لم تصله في ذلك الصباح الباكر أشعة الشمس بعد. حاول تحاشي أمواج الربيع المرتفعة، التي كانت في بعض المناطق تصل حتى موضع قدمه في ركاب السرج. لقد تجنب البلل في ذلك الصباح الباكر. كان يتحدث لنفسه بهواجس كثيرة ففاجأه الفرس بنفرة قوية و"بجفلة" خفيفة نحو الوادي الضيق الذي يماشي المنحدر من جهة الغرب. سحب رسن الفرس سحبة قوية أوقفتها في مكانها.. نظر حيث الجهة التي كانت الفرس تحاول الابتعاد عنها... وقال بصوت مسموع: "إنه الحَجِّي المسكين... بارك الله فيك يا حجي... صباح الخير أيها الذاهب لبيت الله ولزيارة قبر رسول الله".

ترجل من فوق ظهر فرسه وهو يتمتم بسورة الفاتحة... خطا بضع خطوات إلى الأمام وأخذ يخاطب ذلك الغارق في دغل الحشائش الخضراء الندية: ما الذي جاء بك إلى هذا المكان... من الذي أطلق عليك النار... لماذا ترتعد بهذه الطريقة المحزنة... لماذا تمد ساقك بعيداً عن جسمك... هل رجلك مكسورة... لماذا تغمض عينيك هكذا... من هو ابن الحرام الذي اعتدى عليك في هذا الصباح الباكر... تكلم "يا حجي"... أجبني "يا حجي"؟!!.

لم ينبس "الحجي" بكلمة واحدة، وبقي ينتفض لكنه فتح عينيه بصعوبة... اقترب الرجل من "الحجي" وهو يتمتم بسورة الفاتحة وبانتباه شديد هوى عليه بكلتا يديه... حمله بعناية فائقة... ضمه إلى صدره بقوة ليعطيه بعض الدفء... مشى به، كما يمشي الوجى الوحل، نحو فرسه... صعد إلى ظهرها، وهو يضمه إلى صدره بيده اليمنى... وضعه أمامه على قنطرة السرج... وعاد مسرعاً نحو البيت.

نادى على زوجته بصوت فيه الكثير من الافتخار والثقة بالنفس وطلب منها أن تجدد النار... نزل عن صهوة فرسه وأنزل معه "الحجي" وذهب تواً إلى حيث النار كانت متقدة قبل أن يطلب إيقادها سحب "هِرْسَة" اعتاد أن يتوسدها ووضعها على مقربة من النار ووضع الحجي فوقها... أخذ الدِّفء يسري في أوصال "الحجي"... ذهبت الرعشة عنه استند ثم وقف على رجليه الطويلتين الحمراوين... حاول الرجل أن يهمس إليه بشيء، لكن الحجي اتخذ وضعاً قتالياً واستهدف بمنقاره الأحمر الطويل عين الرجل ونقرها نقرة عنيفة ثم فرد جناحيه وارتفع بسرعة ملتحقاً برفِّ اللقالق

"أبوسعد" التي كانت أسرابها تعبر الأردن في مثل هذا الفصل من كل عام متجهة نحو الجنوب في اتجاه الكعبة المشرفة.

back to top