تريد قناة "الجزيرة" أن تجعل اسمها أميركياً مثل "بيتزابرغر" تماماً، غير أن هذه المحطة، التي تتخذ من دولة قطر مقراً لها وتذيع برامجها إلى كل أنحاء العالم باللغتين العربية والإنكليزية، عندما أعلنت خططاً لإنشاء قناة إخبارية في الولايات المتحدة أثارت موجة جدل عاصفة ومدوية، وقد عادت إلى السطح مجدداً الاتهامات القديمة التي وجهت الى قناة "الجزيرة" حول أنها منصة للإسلاميين. وقالت شبكة "سي إن إن" في تعليق غير مألوف لها حول الموضوع "عندما تصبح الجزيرة قناة فضائية أميركية رئيسة، كما تخطط، قد يعمد بعض الأميركيين إلى تجاوزها وعدم الالتفات إليها وهم يستعيدون ذكريات اللهجة المعادية لأميركا إبان الحرب العراقية قبل عقد من الزمن".  

Ad

وقد عملت "الجزيرة أميركا" منذ انطلاقها في 20 أغسطس الماضي جاهدة لمحو فكرة أنها قناة أجنبية مغتربة، وانطلقت إلى آفاق أبعد كثيراً مما هو معتاد من الشبكات الخارجية العاملة في واشنطن ونيويورك كمقرين رئيسين، عبر خطط لفتح مكاتب لها في شيكاغو ودالاس ودينفر وديترويت ولوس أنجليس وميامي وناشفيل وتينيسي ونيو أورليانز وسان فرنسيسكو وسياتل. كما عمدت إلى تشغيل أسماء مشهورة من الشبكات الأميركية مثل سوليداد أوبريان وعلي فيلشي.  لكن متابعة تقارير "الجزيرة أميركا" تكشف أن الحقيقة تكمن في مكان ما بين هذه الرؤى؛ فالشبكة كمحطة أجنبية تقف بشكل أساسي ضد كونها شبكة أميركية بالكامل. فالموضوعات التي تتناولها المحطة وتغطيها أميركية صرفة بصورة لا يمكن إنكارها أو مهاجمتها، ولكن طريقة رؤيتها تظل ذات سمت خارجي، ومنظور المشاهد الخارجي الفضولي الذي لا يلحظ أي شيء جلي والذي تتسم أسئلته بالأهمية والسذاجة هي على قدر من الأهمية رغم بساطتها.

وفي حقيقة الأمر، قد تمثل "الجزيرة" شيئاً جديداً تماماً في العمل (رغم أنه ليس غير مسبوق) وهو التحديق الخارجي في الاستهلاك الداخلي.

وتتخذ الغرابة هنا بعدين على الأقل: الأول، أن الصحافيين من المؤسسات الإخبارية الأجنبية، منذ قديم الزمن، يرسلون تقاريرهم إلى الدول التي أوفدتهم، ويندر أن تشاهد تلك التقارير محلياً، لكن شبكة الإنترنت غيرت تلك الصورة. وهكذا عندما تقوم هذه الصحيفة أو غيرها بصياغة خبر عن إيطاليا أو غانا يستطيع المواطن الإيطالي أو الغاني الآن قراءته، وقد تلقف العديد من شركات الإعلام الغربية هذه الحقيقة كي تنشئ مواقع مكرسة للاستهلاك الداخلي في تغطيتها الخارجية- بما في ذلك، على سبيل المثال، موقع صحيفة "نيويورك تايمز- إنديا إنك".

ولكن قيام شركات إعلامية كبيرة من الغرب المزدهر بمثل هذه التداخلات المحلية في الخارج شيء، وقيام شبكة تتخذ من قطر مقراً لها بإعطاء الأميركيين نسختها من المنظور الأجنبي شيء آخر. فالدول التي عمد مثقفوها منذ وقت طويل إلى الاحتجاج والرفض لميول الغرب نحو "الاستشراق" عند تصويرهم للأجانب في بلادهم، لديها الآن فرصة للمشاركة ولو بقدر ضئيل من أجل التعرف على شعوب الغرب في إطار ما يعرف بثقافة "الاستغراب".

والسؤال هو ما الذي ستزيح "الجزيرة أميركا" الستار عنه بنظرتها الخارجي هذه؟

إن تغطية الولايات المتحدة بهذه الطريقة تعني، كبداية، التحدث عن مواضيع مثل "معدل الوفيات بين الأطفال"، فالبحث في موقع "سي إن إن" على الإنترنت حول هذا الموضوع سيظهر لك بشكل دائم وجود أماكن مأساوية مثل مدغشقر؛ وثمة نقاش حول معدل الوفيات بين صغار الدلافين؛ ولكن لن يكون هناك الكثير من النقاشات أو المعلومات عن تلك القضية في أميركا على الرغم من أنها تحتل مرتبة قريبة من القاع بين الدول المتقدمة.

داخل قناة "الجزيرة"، التي أرسلت حديثاً أحد مراسليها إلى مدينة كليفلاند التي وصفتها بأنها "عاصمة وفيات الأطفال في أميركا"، فإن السؤال الذي تابعته وكانت له تشعبات على الصعد المحلية والعالمية: "لم تتجاوز معدلات الولادات المبكرة والوفيات بين الأطفال في العديد من الأحياء ما هو مسجل في الدول النامية"؟

وقد عكس التقرير نظرة الشبكة إلى الولايات المتحدة بصورة عامة بقدر أكبر: بوصفها دولة ديناميكية وواعدة، وفي الوقت ذاته، قاسية في طرق تميزها عن الدول الغنية المناظرة لها. يوجد في "الجزيرة أميركا"، بطبيعة الحال، تغطيات وتقارير متنوعة عن الرعاية الصحية وأسواق الأوراق المالية والتغير المناخي، لكن هناك ملاحظة مهمة تبدو بشكل جلي تماماً تتعلق بفكرة "الوفرة الطاغية في أميركا". المنظور الأجنبي الذي تنظر من خلاله "الجزيرة أميركا" يجعلها محطة لا تتعامل مع أي شيء على أنه واضح وصريح، وعندما يتم عمل ذلك بشكل جيد فهو يندرج ضمن تقاليد العمل المثلى للمراسلين الأجانب: الأسلوب الذي يبرز عالياً عندما تقدم أجوبة حادة وعميقة على تساؤلات تبدو غبية- غبية لأنها أساسية جداً وجلية ولا حاجة لذكرها لأنها تجيب عن نفسها، بحيث لا يفكر المرء قط في طرحها بقدر يفوق التساؤل عن مدى احتياج السمك للماء.

ولكن الأمر لا يتعلق الآن بالنظرة إلى نيجيريا أو الصين على هذا النحو، بل إلى قوة عظمى- في عيون شبكة عربية حديثة العهد وليس أقل من ذلك. وهكذا كانت سلسلة حلقات "الجزيرة أميركا" ذات الأجزاء الثلاثة حول "السرقة الكبيرة أوتو في"، وهو لعبة فيديو جديدة، أكثر بعداً وصعوبة من العديد من التقارير المنافسة، وقد استخدمت الصحافية لوري جين براعتها في لعب دور البريئة. وفي إحدى اللحظات كانت تمارس اللعبة وهي تخاطب المشاهدين ثم شرعت، وهي تقف أمام الشاشة، بضرب رجل بريء بعصا الغولف: تلفاز حديث صادم مثير. وفي لحظة أخرى تجلس إلى جانب طفل في الحادية عشرة من العمر وهو يمارس اللعبة، ثم تسأله ببساطة: ما الذي يحبه في اللعبة؟ في لحظة الرد تولد ثقافة جديدة: "أنا أحب القيام ببعض الأشياء التي أعلم أنني غير قادر على القيام بها في الحياة الواقعية... فعلى سبيل المثال لا يمكنني في الحياة الحقيقية قتل الناس، وفي هذه اللعبة يمكن القيام بذلك".

هذا هو النوع من القصص التي تركز عليها الشاشة الكبيرة التي تأتي من طرح الأسئلة الأساسية إلى حد كبير- وهي الأسئلة التي ربما تستبعد تماماً في غرف الأخبار الرئيسة الأخرى لأنها جلية تماماً، أو لأنها طرحت من قبل أكثر من 1000 مرة، أو لافتقارها إلى "زاوية" تناول أو وجهة نظر جديدة. إنه نوع القصص الإخبارية التي تنتج عن إرسال صحافيين لطرح أسئلة عن مجتمعهم كبيرة وعويصة الحل، كما أنها تنتج عن جعلهم يفكرون، باختصار، كما لو كانوا مراسلين أجانب عادوا للتو إلى وطنهم الذي لم يعد مألوفاً بالنسبة إليهم.

جلبت "الجزيرة أميركا" هذا الأسلوب إلى أحداث العنف في شيكاغو، وأجرت في الواقع مقابلة مع قادة عصابة حقيقية ناقشت معهم صراحة بالتفصيل قضايا تخص مخدراتهم وأسلحتهم وأساليبهم في العمل. كما فعلت الشيء ذاته في القصة الخبرية من نيو أورليانز حين ناقشت كيفية تجاوز الناجين من ضحايا جرائم القتل محنتهم التي تعرضوا لها. وعندما سئلت فتاة صغيرة عن أحداث العنف التي تكاد تصل إلى مستوى الحرب التي تحيط بالحي الذي تعيش فيه، بدت البساطة في ردها "أنا لا أرتدي أي حذاء لا أستطيع الجري به"، وكأنها تؤكد هذا الأسلوب في تأريخ أميركا وأحداثها كما لو أنها تراها للمرة الأولى.

Anand Giridharadas