تأتي الاتفاقية الأمنية الخليجية الكارثية لتكرِّس العقلية الأمنية الفاشلة التي لا ترى حلاً لمشكلة انعدام استقرار المجتمعات الخليجية إلا بالحلول الأمنية، وهي في الواقع اتفاقية تسعى إلى حماية أنظمتها ضد المطالب الشعبية ودمقرطة أنظمتها السلطوية. وقد عبر رئيس المنتدى الخليجي للأمن والسلامة فهد الشليمي عن هذه العقلية بقوله إن "حماية المجتمعات الخليجية أهم من دمقرطة المجتمعات، وما يدل على ذلك هو لجوء الدول الغربية إلى تعديل الكثير من التشريعات بعد أن شعرت بأن الديمقراطية بدأت تهدد الأمن القومي لبلدانها". عجبي، كيف أصبحت الديمقراطية تهدد الأمن القومي؟ هل هناك فعلاً مَن يؤمن بهذا المنطق في زمن انتفاضة الشعوب ضد الاستبداد والاستلاب في الدول غير الديمقراطية؟ كل صفحة في صفحات تاريخ الشعوب تعلمنا أن فتح أبواب الديمقراطية، بدلاً من فتح أبواب السجون، من شأنه أن يحرك المجتمعات ويُدخل الشعوب المنسية داخل الزمن.

Ad

استعصاء الديمقراطية في الخليج هو أسّ المشكلة والبلاء، ومعوقات الديمقراطية في الخليج هي الأنظمة الريعية التي تنتج الرعايا التابعين الخانعين، أما المواطنية وما تضمنه من قيم الشراكة والاستقلال فلا يمكن إنتاجها إلا بتحقيق الديمقراطية الحقيقية. تأتي اليوم الاتفاقية الأمنية الخليجية لكي ترسخ الثقافة الرعوية التي تهشّ فيها الدولة بعصاها على الرعية.

ومفهوم الدولة الريعية هو الدولة التي لا يعتمد اقتصادها على إنتاج مواطنيها بل على مداخيل الريع الناتج من الموارد الطبيعية، لتهيمن الدولة على إدارة الثروة وطريقة توزيعها، وهي بذلك تستقل اقتصادياً، فلا تعود بحاجة إلى الشعب، بل تصبح الموظف الرئيسي له، ليصبح أغلب الشعب موظفين لدى الحكومة المتورمة المتضخمة إلى حد الانفجار، فهي المانحة الواهبة المهيمنة على كل مفاصل مؤسسات الدولة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية التي أضحت ملحقات للسلطة وأجنحتها المتمددة، فتحصل على الرضى الشعبي والشرعية من خلال توزيع المكرمات والهبات والوظائف والمناصب وشراء الولاءات على حساب الكفاءات، لتصبح المؤسسات مرتعاً للفساد والإفساد.

لقد كرست الثقافة الريعية قيم الاستهلاك والتبعية والعقلية الريعية الاتكالية وانحطاط أخلاقيات العمل وتدهور أدائه، وأعاقت التنمية المستدامة والتطور الديمقراطي وقيم تكافؤ الفرص، وشوهت البنى الاقتصادية (فالرخاء لا يعني كفاءة أداء الاقتصاد)، وأهدرت طاقات شعوبها وخدرتهم باقتسامها للغنائم، وحولتهم إلى منتفعين بدلاً من منتجين. وباحتكار الدولة للسلطة والاقتصاد استفحل داء السلطوية وتفاقم القمع وأضحت الديمقراطية عصية على شعوبها. وقد أشارت بعض الأبحاث إلى العلاقة العكسية بين ازدياد المداخيل النفطية والتطور الديمقراطي، فكلما ازدادت المداخيل تخلّفت العملية الديمقراطية وتراجع الانفتاح السياسي، والعكس صحيح.

الدولة الريعية مقبرة الديمقراطية، ذلك أن الثقافة الريعية لا تنتج إلا السلطوية... والسلطوية التي تكرسها الاتفاقية الأمنية والحلول الأمنية هي التهديد الكارثي للاستقرار السياسي والأمن القومي... ولا حل إلا بمعالجة مرض الدولة الريعية السلطوية.. قبل انخفاض مداخيل مصدر ريعها.