ماذا بعد المشاركة أو المقاطعة؟!
على الرغم من مقاطعتي الحادة للعملية الانتخابية الجارية حالياً، فقد بينت لأكثر من مرة وبلا تردد أني أحترم وجهة نظر من يرغبون في المشاركة، لإيماني بأن الأمر برمته خاضع للاجتهاد ويحتمل لذلك تعدد الآراء، وكذلك، ومن زاوية أخرى، فإن مرونتي المطلقة مع هذه المسألة تنبع من قناعتي بأن المشاركة في الانتخابات أو مقاطعتها لا تمثِّل نهاية المطاف أبداً؛ لأن المسألة في تقديري أبعد وأعمق من ذلك بكثير، ولأن المشاركة والمقاطعة والانتخابات بل البرلمان بأسره ما هي جميعاً إلا وسائل وأدوات وليست غايات على الإطلاق، وبالتالي فمن الممكن الاجتهاد في أمرها دائماً وأبداً. وستظل الغاية دائماً هي الوصول إلى تمتعنا في هذه البلاد بالحكم الرشيد العادل، وقيام سلطة الشعب الحقيقية، وإمضاء حق هذا الشعب في تحديد مصيره ومصير بلده، واختيار من يديرون أمره ومن ينوبون عنه للحديث بلسانه.
وهكذا فلا مشكلة عندي أن يشارك من يريد في الانتخابات التي ستجري بعد يومين، ترشحاً وتصويتاً، إن كان يؤمن حقاً بأن البرلمان لا يزال هو سبيل التصدي للفساد والتردي والسوء الذي بات يضرب في جوانب البلاد، وينخر مفاصلها بلا هوادة، وأنه السبيل لإقرار سلطة الشعب الحقيقية، كما يجب في المقابل ألا تكون هناك أي مشكلة عند الطرف الآخر في أن نقرر، ويقرر معنا من يشاء، مقاطعة هذه الانتخابات إيماناً منا بأنها ستفضي إلى برلمان شكلي فارغ المحتوى، وأن هذا البرلمان لن يكون أبدا السبيل للتصدي للفساد والتردي والسوء، ولن يكون ممثلاً حقيقياً لسلطة الشعب. المحك الحقيقي يتمثل بالسؤال التالي: "ماذا بعد المشاركة أو المقاطعة؟"، فعلى من يؤيد المشاركة ومن سيشارك أن يبين كيف ستكون الأمور من بعد ذلك؟ وكيف سيكون التصدي للفساد؟ وكيف ستمضي إرادة الشعب وسلطته من خلال هذه المؤسسة؟ وهل سيكون في البرلمان بهيئته الانتخابية الحالية وطريقة تكوينه التي رسمتها، أو لنقل خنقتها السلطة، ما يكفل ذلك حقاً؟ أم أن الأمر مجرد تخمين وتمنٍّ؟!وفي الضفة الأخرى، وحتى أكون موضوعياً منصفاً، فعلى من ينوي المقاطعة أو يزيد على ذلك فيدعو غيره للمقاطعة أن يشرح لنا ماذا هو فاعل من بعد ذلك؟ لأن العقل يرفض أن تكون المقاطعة هي نهاية الأمر بالنسبة إليه، وألا يملك تصوراً واضحاً لما سيفعله من بعد ذلك.سأختم بتكرار القول بأن الانتخابات القادمة ونتائجها ونسبة المشاركة فيها لن تغير من حقيقة الأمر شيئاً أبداً، ولذلك فعلى الأذكياء ألا ينشغلوا كثيراً بها، وأن الأمر المهم حقاً لحاضر هذا البلد ومستقبله هو ما سيكون عليه الواقع من حراكٍ سياسيٍ جادٍ من بعد ذلك من كل الأطراف.