تندس في تضاعيف مسرحية "مجنون ليلى" لشوقي مقطوعات تمتلك، كل على حدة وبحق، سمات النصوص الغنائية كاملة الوحدة والبناء. ولعل هذه المقطوعات غدت لفرط عذوبتها وعاطفتها النقية المتبتلة أفضل ما يصلح للغناء والتمثيل والاستشهاد، ناهيك عن كشفها عن رغبات التحرر والجنوح عند شوقي، ومدى تشوّقه للمغايرة والجدة في إطار الشعر الوجداني، ومحاولته التملص من العقلانية المسرفة نحو  "الجنون" المشروع  ونحو التفتّح على دهشة الحب وجدّته:

Ad

سجا الليلُ حتى هاج لي الشعرُ والهوى

وما البيدُ إلاّ الليلُ والشعرُ والحبُّ

ملأتُ  سماءَ   البيد  عشقاً    وأرضها

وحُمِّلتُ وحدي ذلك العشقُ يا ربُّ

وباتتْ خيامي  خطوةً  من  خيامها

فلم يشفني منها   جوارٌ   ولا قُربُ

يحنّ إذا  شطّتْ  ويصبو  إذا  دنتْ

فيا ويح قلبي  كم يحنُّ  وكم يصبو

                                     ................

دعونا وما يبقى  إذا  ما فنيتمُ

فوالله ما شيء خلا الحب باقيا

مشى الحبّ في ليلى وفيَّ من الصِّبا

ودبَّ الهوى في شاء ليلى وشائيا

وإني  وليلى  للأواخر  في  غدٍ

لشغلٌ  كما كنّا  شغلنا  الأواليا

                                   ..................

جبلَ  التوباد   حيّاك  الحيا         وسقى اللهُ صبانا ورعى

فيكَ ناغينا  الهوى في مهده         ورضعناهُ فكنتَ المرضِعا

وحدونا الشمسَ  في مغربها         وبكرنا فسبقنا المطلعا

وعلى سفحكَ  عشنا  زمناً         ورعينا غنمَ الأهل معا

هذه الربوة   كانت  ملعبا         لشبابينا وكانت  مرتعا

كم بنينا من حصاها أربُعا         وانثنينا فمحونا الأربُعا

وخططنا في نقا  الرمل فلم         تحفظ الريح ولا الرمل  وعى

لم تزل ليلى  بعيني طفلةً         لم تزد عن أمس إلاّ اصبعا

ما  لأحجارك  صماً  كلما         هاج بي الشوق أبتْ أن تسمعا

كلما جئتكَ راجعتُ الصِّبا         فأبت   أيامه أن ترجعا

قد يهون العمر  إلا ساعةً         وتهون الأرض إلاّ موضعا  

 لعل أول ما يلفت الانتباه في هذه النماذج مسألة المغايرة في الخطاب الشعري، والذي يتضح في مسألة اطلاق المكبوتات من العواطف الجانحة والأهواء المستكنّة، والتي كشفت عن رقة مفرطة وأشواق غامضة مهوّمة ورغبة ملحّة في التعري والكشف. وكلها نوازع لم تجد لها مسارب إلا من خلال هذا اللون من الشعر (ذي النزعة العذرية)، الذي غدا قناعاً مبذولاً وجبّة ناعمة مريحة تتيح للشاعر نعمة الاسترخاء وهناءه . قد لا يكون لشوقي امرأة من لحم ودم مثل ليلى العامرية، وهو بالضرورة ليس قيساً، وإنما حاجة الإنسان لهذه الفضفضة الوجدانية والقلبية والانطلاق وراء تهاويمها والتعري أمام حقيقتها، تظل رغبةً ملحّة  خاصةً بالنسبة للشاعر.

ولعل مسألة اطلاق المكبوتات عند شوقي لا تقف عند أشواق الروح ونزعات الوجدان، وإنما تتعدى ذلك إلى اطلاق المكبوتات وفضّ المحرمات فيما يخص وضع المرأة أيضاً . ففي نص المسرحية هناك صوت جهوري ملحوظ للمرأة ، وهناك مساحة واسعة للتعبير عن رأيها، وهناك إصرار على تحدي التقاليد ومناوشتها، وإصرار على تكريس الحب كقيمة إنسانية والإعلاء من شأنه والانتصار له ضد مؤسسة الزواج! وهذا بحدّ ذاته يمثل شطحاً لا يمكن التجرؤ عليه اجتماعياً إلا من خلال هذا النمط من القصّ الفني المقنّع بقناع التراث والمشوب بالأسطورة والخيال، وكلها منافذ للفضفضة وإطلاق الطاقة الكامنة المكبوتة.

وفوق هذا، فإن الحب من خلال هذه المسرحية يبدو مولوداً شرعياً يشارك في الخوض في شأنه جلّ أفراد المجتمع من أسرة وعشيرة وأصدقاء ومعارف، بل وحتى أمراء أقاليم وشخصيات نافذة مثل ابن عوف والحسين بن عليّ، كلٌّ يدلي بدلوه إن سلباً أو إيجاباً ويتعاملون معه كظاهرة معيشة وكشأن عام. إن عودة شوقي إلى عرض هذه الأجواء العاطفية المتسامحة والمضببة ببراءة الفطرة وسذاجة الخيال في الأقصوصة عامةً، ربما تعبّر عن رغبته في إرجاع الحب إلى تلقائيته وألفته، واعتياديته الإنسانية، قبل أن تُسدل عليه أستار التحفظ والحذر والتابوهات من جهة، وعبء التقاليد الفنية المندثرة من جهة أخرى، كما هو الحال في عصر شوقي وفي ما سبقه من عصور.