دروس من تجربة إخوان مصر (2)
ذكرنا في المقالة السابقة أن الإخوان في مصر، "الجماعة الأم" لجماعات الإسلام السياسي في المنطقة، لم يستطيعوا الاحتفاظ بثقة الشعب الذي انتخبهم وأوصلهم إلى السلطة، بسبب سياسات عقيمة دفعت 30 مليوناً للخروج في حشود وصفت بأكبر تجمع بشري في الشوارع عبر التاريخ، مطالبين بعزل الرئيس د. محمد مرسي، واستجاب الجيش لمطالبهم وعزل الرئيس المنتخب، وتولت قيادة جديدة مؤقته حكم مصر، ذكرت من الدروس درسين:أولاً: افتقاد سياسة الإخوان للقدوة الدينية والأخلاقية
ثانياً: تفسيرهم الخاطئ لحق التفويض الشعبي.وأستكمل هنا ذكر بقية الدروس المستفادة:ثالثاً: الاستبداد في الداخل والبراغماتية في الخارج: أثبتت سنة حكم الإخوان، بمقدار كونهم براغماتيين واقعيين في التعامل مع القوى الدولية في الخارج، كانوا مستبدين إقصائيين مع القوى الوطنية في الداخل، مع الخارج أعلنوا احترامهم لاتفاقية كامب ديفيد، وخاطبوا بيريز بالصديق العزيز، وأعادوا السفير وضبطوا "حماس"، ووطدوا العلاقات بأميركا والغرب. وكانوا قبل ذلك معادين لهما يطالبون بمقاطعتهما ويتزعمون المسيرات ويحرقون أعلامهما ويخونون من يتعامل معهما! ولا حرج في البراغماتية، بل حتى الميكافيلية رعاية للمصالح الوطنية، ولكن أليس أبناء الوطن وقواه الداخلية أولى بهذه البراغماتية في التعامل؟ لماذا تصلبوا وعاندوا واستكبروا مع أنهم قبل رفعوا شعار "المشاركة لا المغالبة"؟! لقد تعاملوا بتعال شديد ورفضوا النصائح، وأصموا آذانهم وأخذتهم العزة بالشعبية، وأن لهم الأغلبية واطمأنوا إلى الرضا الخارجي، وحاولوا استمالة الجيش أو تحييده عبر ضمان الاستقلال الاقتصادي له، وتحصين مصالحه وامتيازاته في دستورهم، كما راهنوا على أن أميركا ستضغط على الجيش وتمنعه من الانحياز لقوى الشعب المعارضة، لكنهم أخفقوا في المراهنة وفي قراءة المشهد السياسي الرافض لهم، كانوا يعتقدون أن نزول الملايين لن يجبرهم على التنحي من دون قوة الجيش، فاستمروا متصلبين يرفضون كافة الحلول التوافقية. رابعاً: فرض "الأخونة" على الدولة تمهيداً لفرض "الأسلمة" على المجتمع: كثيرون قالوا، إن الإخوان افتقدوا مشروعاً سياسياً واقتصادياً للحكم، وكذلك طبقوا نفس سياسات سلفهم لكن بصورة أقل كفاءة وبواجهة دينية، وهذا صحيح، ولكن هذا الحكم لا يقتصر على الإخوان وحدهم، إذ لا توجد مشاريع فعلية للإسلام السياسي ولا لبقية التيارات السياسية، لكن ما يميز الإسلام السياسي عن الآخرين هو الهاجس الكبير من المرأة والنظرة المنتقصة من غير المسلمين. ومع ذلك أتصور أن المشروع السياسي الوحيد للإخوان هو السعي إلى "أخونة" مؤسسات الدولة، حتى إذا تحقق "التمكين" الكامل واستحوذوا على كافة "مفاصل" الدولة، فرضوا "الأسلمة" على المجتمع من غير معارضة كبيرة. وهذا ما يفسر لماذا كان الإخوان متعجلين في استكمال "التمكين"، وفي اجتياحهم للمؤسسات وتطويع القضاء والإعلام والجيش والشرطة والأجهزة الأمنية، كانوا يسابقون الليل والنهار في إصدار التشريعات واتخاذ الإجراءات، إذ كان الهدف الرئيسي لهم استثمار الأغلبية البرلمانية التي يحظون بها لإصدار دستور على مقاسهم وتمرير تشريعات محصنة تمنع المحكمة الدستورية العليا من إبطالها، كانوا في عجلة من أمرهم فاتخذوا قرارات غير مدروسة، واضطروا للتراجع عنها، كانوا يسابقون الزمن لتحقيق "التمكين" الكامل والشامل قبل موعد الانتخابات البرلمانية التي قد لا يضمنون الأغلبية فيها!خامساً: تغييرهوية مصر: من أكبر أخطاء الإخوان بل خطاياهم، محاولتهم تغيير هوية مصر التي عرفت بها تاريخياً، وفرض أيديولوجيتهم الخاصة عليها، وتناسى الإخوان أن المصريين إنما انتخبوهم لحل مشاكلهم وتحقيق أهداف الثورة، لا لفرض فكرهم الخاص عليهم. تجاهل الإخوان تحذير "بن كيران" رئيس الحكومة المغربية والأمين العام لحزب "العدالة والتنمية" المغربي ذي المرجعية الإسلامية، بأن الشعوب إذ صوتوا للإخوان فإنهم صوتوا لكونهم أحزاباً سياسية منوطاً بها حل مشاكلهم السياسية والاقتصادية وصيانة حقوقهم وحفظ أمنهم، لكن الشعوب لم تعطهم تفويضاً مطلقاً بأن يطبقوا فهمهم الخاص للإسلام على مجتمعاتهم ودولهم أو فرض أيديولوجيتهم على الجماهير. إذ ليس من حق فصيل سياسي مهما بلغت أغلبيته أو دعواه بفهم صحيح الدين، أن يفرض على المجتمع ومؤسسات الدولة رؤيته الإسلامية، التي يختلف معها الآخرون سواءً من الإسلاميين أو غيرهم، لأنه لا احتكار للفهم الديني في الإسلام، فإن ذلك ادعاء ينقضه "ألا أحد يملك الحقيقة المطلقة إلا الله تعالى وحده"، ولأن الحركات الإسلامية لا تحمل تفويضاً مطلقاً بفرض الأسلمة على المجتمع والدولة. فالمجتمعات الإسلامية ليست بحاجة إلى الأسلمة، لأنها ولله الحمد تعالى، مسلمة بطبيعتها: تحيا بالإسلام تعاملاً وعبادة وشعائر وتشريعات ومعتقداً، ومن قبل ظهور الإسلام السياسي بقرون طويلة ومن بعده، والإخوان لن يضيفوا شيئاً إلى إسلام المجتمعات الإسلامية وإلى عقيدتها إلا بمقدار أن يكون الحزب الإسلامي قدوة أخلاقية في سلوكياته وتصرفاته العامة، ولأنه –أيضاً- لا يجوز للحكم الإسلامي المنتخب استغلال التفويض الانتخابي لفرض رؤيته الخاصة، فذلك كارثة أخلاقية وفكرية وسياسية، لذلك لفظت مصر، أيديولوجية الإخوان؛ لأن المخزون الثقافي والاجتماعي والفني والسياسي الذي أعطى مصر روحها المتميزة وفرادتها، لا يتقبل فكر الإخوان وثقافتهم. فالمصريون قوم يعشقون الحياة ويطربون لأغاني أم كلثوم وعبدالوهاب وفريد وعبدالحليم، ويأنسون للفكاهة ويتذوقون الفن والأدب ويفتخرون بطه حسين ومحفوظ وإدريس، ويستمتعون بمشاهدة الأفلام والمسلسلات مثلما يحبون تدخين الشيشة على المقاهي حتى ساعات الفجر الأولى، ويتفرجون على مباريات كرة القدم يصرخون ويشجعون ويفضلون تعليم أولادهم تعليماً عصرياً يؤهلم للوظائف، مثل هذا الشعب الحيوي المقبل على الفن، لا يمكن أن يتقبل المزاج الإخواني المحافظ، لا رفضاً للدين ولا رجاله، ولكن رفضاً للاستبداد باسم الدين وتوظيفه واستغلاله، ورفضاً لتغيير هوية المجتمع من قبل أقلية أيديولوجية لها ولاء عابر لحدود الوطن والقومية والعروبة إلى الأممية الدينية والولاء الديني، عبر عنه مرشدهم السابق عاكف بقوله "طز في مصر واللي في مصر" ومن هنا نفهم مغزى قول د. الببلاوي رئيس الحكومة الانتقالية "مصر عادت للعرب" كما ندرك سر ارتياح دول الخليج للتغيير والمسارعة للتهنئة وتقديم الدعم.أخيراً: سبحان مغير الأحوال، لطالما خون الإخوان من تعاون مع أميركا والغرب، واتهموا بالعمالة من أيّد تدخلهما لأجل حقوق الإنسان والديمقراطية، اليوم هم الذين يستنجدون ويستقوون بأميركا والغرب، ويتباكون أمام القنوات الغربية مثل CNN المتعاطفة معهم، ويطلبون تدخلهما ويسعون إلى وساطة الاتحاد الأوروبي من أجل تمكينهم للعودة إلى السلطة، وما تظاهراتهم وقطعهم الطريق وتعطيلهم مصالح الناس، وتعمدهم الصدام الدامي مع الجيش إلا لاستغلال دماء شبابهم في التسويق، وكسب تعاطف الغرب وأميركا، وجلب تدخلهما في الشأن المصري، وهكذا يثبت الإسلاميون أن الغرب الذي طالما عادوه ولعنوه هو المنجد لهم وقت المحن والأزمات! ولكن على الإخوان أن يدركوا أن كل ذلك سيجلب لهم المزيد من كراهية الشعب. *كاتب قطري