في صيف عام 2006، عندما قدِم الرئيس الأميركي يومذاك جورج بوش الابن إلى سانت بيترسبورغ لحضور قمة مجموعة الدول الثماني، دار حوار شيّق بينه وبين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال مؤتمر صحافي، فقد لفت بوش الانتباه إلى التحديات التي تشكّلها الحريات الديمقراطية، خصوصاً حرية الصحافة، في روسيا.

Ad

ثم أشار إلى أن الوضع تحسن كثيراً في العراق، لكن بوتين سارع إلى الرد، قائلاً: "لا نرغب حقّاً في نوع الديمقراطية التي يحظى بها العراق". فعلا التصفيق في الغرفة، ولم يسمع الجميع جواب بوش: "انتظر، فالديمقراطية قادمة". كان بوش يفكّر في زيادة الاستقرار في العراق، لكنه بدا كمن يهدد: سترى، ستصل الديمقراطية إلى بلدك أيضاً.

خلال السنوات السبع بعد هذه الحادثة، تحسن وضع العراق، رغم كثرة الشكوك في المنطق الذي أدى إلى هذه الحرب، ولم يتضح ما الذي حققته الولايات المتحدة لنفسها، ولكن في روسيا، يعتقد معظم المحللين والسياسيين والمواطنين العاديين أن الولايات المتحدة تملك قوة مطلقة. لذلك يرفضون المفهوم أن الولايات المتحدة ارتكبت، ولا تزال ترتكب، الأخطاء في المنطقة. بدلاً من ذلك، يفترضون أن كل هذا جزء من خطة معقدة لإعادة هيكلة العالم ولنشر سيطرتها في أرجائه المختلفة، إلا أن شكوكاً كثيرة بدأت تنشأ حول هذه الأفكار، نظراً إلى الفوضى التي تعمّ الشرق الأوسط اليوم. فصار من الصعب طرح نظرية مؤامرة تؤكد رؤية الولايات المتحدة الشريرة هذه، لكن المتمسكين بهذه الفكرة يجدون دوماً ما يبررها.

لعبت حرب العراق، التي بدأت قبل 10 سنوات، دوراً بالغ الأهمية في السياسات المحلية الروسية، فلم تؤدِ هذه الحرب إلى نقطة تحوّل في العلاقات مع الولايات المتحدة. يتذكر قليلون اليوم أن بوتين والقيادة الروسية تفاعلا مع التحضيرات للحرب والحرب نفسها بطريقة هادئة، قائلَين إننا نعارض ما تقومون به، فأعمالكم مجنونة، إلا أن هذا شأنكم. كان بوتين لا يزال يعمل وفق نموذج عامَي 2001 و2002، حين أمل حقاً أن يؤدي التعاون مع الولايات المتحدة في أفغانستان وفي الحرب ضد الإرهاب إلى تغيير العلاقات الثنائية الأميركية-الروسية. لم تدعم روسيا غزو العراق، مع أن بعض الشخصيات العامة أشارت في تلك المرحلة إلى احتمال التدخل العسكري، لكن بوتين لم يرد في الوقت عينه أن تهدد معارضة روسيا روابطها مع الولايات المتحدة وعلاقات بوتين الخاصة مع بوش.

لكن خطاب موسكو بات أكثر تشدداً في شهر فبراير عام 2003، بعد زيارة بوتين لبرلين وباريس، حيث أقنع القائدان الأوروبيان، اللذان عارضا بشدة سياسة واشنطن في العراق، الرئيس الروسي باتخاذ خطوات حازمة. وقد تجلى ذلك بوضوح في باريس، حين التقى الرئيس آنذاك جاك شيراك شخصياً نظيره الروسي في المطار، في انتهاك واضح للبروتوكول الدبلوماسي، وخلال تنقلهما في السيارة عينها، حاول شيراك إقناع بوتين بالطبيعة الكارثية للسياسة الأميركية. وخلال المؤتمر الصحافي الذي تلا المحادثات، استخدم بوتين لغة هذا الديغولي الفرنسي: عالم متعدد الأقطاب وهيمنة المواجهة. وكانت أسباب هذا التغيير عمليةً مرة أخرى. فللمرة الأولى لم تعارض روسيا الغرب، بل وقفت مع جزء منه ضد جزء آخر، وبدا أن خلافات الحرب الباردة قد زالت، فأمل بوتين أن يحقق تقدماً في العلاقات مع الاتحاد الأوروبي (أمل لم يتحقق)، لذلك خاطر بزعزعة علاقاته مع الولايات المتحدة.

رغم ذلك، لم تتعرض العلاقات الروسية مع الولايات المتحدة لخطر قاتل حتى مع غزو العراق بدون أي تفويض من مجلس الأمن في الأمم المتحدة. نستغرب اليوم حين نتذكر أن العلاقات مع الولايات المتحدة كانت قد بدأت تسوء في شهر أكتوبر عام 2004، إلا أن بوتين أعلن أن روسيا تود التعاون مع بوش، لا مع خصمه الرئاسي جون كيري، لكن هذه العلاقات شهدت صراعاً حقيقياً بحلول نهاية 2004، عندما دعمت واشنطن بوضوح "الثورة البرتقالية" في أوكرانيا.

ما كان للخلاصة، التي توصل إليها بوتين من الوضع المحيط بالعراق، دخل بالعلاقات الروسية الأميركية بقدر ما ارتبطت بالفكرة العامة حول الطريقة التي يسير بها العالم في القرن الحادي والعشرين. يقوم القوي بكل ما يحلو له: لا يعبأ بالقانون الدولي، والواقع العالمي، والكلفة التي يتكبدها هو أو الآخرون. نتيجة لذلك، تستند الطريقة المنطقية الوحيدة للتصرف في عالم مماثل إلى أن يعزز المرء قوته وقدراته كي يتمكن من الرد وممارسة الضغط إن دعت الحاجة، وهكذا يكون ترسيخ القدرات بكل ما للكلمة من معنى مفتاح النجاح. قد يعتبر البعض أن القضية ضد ميخائيل خودوروفسكي، مالك شركة النفط الكبرى في روسيا "يوكوس"، بدأت مصادفة بعد التدخل الأميركي في العراق مباشرةً. صحيح أن الدوافع الداخلية الواضحة كثيرة، ولكن كان للإطار الخارجي مساهمة كبيرة في هذه القضية، فقد اعتقد بوتين أن الوقت قد حان لوضع كل الأصول الاستراتيجية تحت سيطرة الدول ومنع تعديات المنافسين العالميين (فكرة أن حرب العراق شُنّت بسبب النفط شائعة في روسيا).

خلال السنوات العشر التي تلت حرب العراق، تعززت نظرة بوتين إلى العالم وتوسّعت. فصار بوتين يعتقد أن القوي لا يقوم بما يريده فحسب، بل يخفق أيضاً في فهم تداعيات أعماله. فمن وجهة نظر القيادة الروسية، تبدو حرب العراق اليوم بداية التدمير السريع للاستقرار الإقليمي والعالمي، ما يقوض المبادئ الأخيرة للنظام العالمي المستدام، وكل ما حدث منذ ذلك الحين (بما في ذلك التقرب من الإسلاميين خلال الربيع العربي، سياسات الولايات المتحدة في ليبيا، وسياساتها الراهنة في سورية) يشكل دليلاً على الجنون الاستراتيجي الذي سيطر على القوة العظمى الأخيرة المتبقية.

يُعتبر الإصرار الروسي في المسألة السورية نتيجة وجهة النظر هذه. فلا يعود موقفها هذا إلى تعاطفها مع الدكتاتور السوري ولا المصالح التجارية أو القواعد البحرية في طرطوس. تبدو موسكو اليوم مقتنعة بأن السحق المتواصل للأنظمة المستبدة العلمانية، إذا استمر بسبب دعم الولايات المتحدة والغرب "للديمقراطية"، سيؤدي إلى زعزعة الاستقرار في كل المناطق، حتى روسيا. لذلك كان من الضروري أن تُقاوم روسيا، خصوصاً أن الشكوك المتزايدة بدأت تساور الغرب والولايات المتحدة نفسَيهما.

من الدروس الأخرى التي تعلمتها روسيا من الأحداث في العراق أنه ما من أمر يمكن عكسه أو الرجوع عنه في عالم السياسة. في ربيع عام 2003، حين كانت الحشود في بغداد تحطّم نصب صدام حسين، بدا أن عهد علاقات روسيا بالعراق قد انتهى تماماً، وأن الشركات الروسية ستُطرد من السوق، خصوصاً أن الأميركيين لم يجتاحوا إحدى أغنى دول الشرق الأوسط بالنفط ليتقاسموا الغنائم مع دولة أخرى. ولكن تدير العراق اليوم حكومة لا تُعتبر موالية للولايات المتحدة البتة. فضلاً عن ذلك، تتفاوض روسيا مع العراق بشأن صفقات كبرى تتمحور حول بيع الأسلحة وعودة شركات النفط الروسية. لا شك أن هذه العملية معقدة، وأن صفقة السنة الماضية الشهيرة (أسلحة بقيمة 4.2 مليارات دولار) لا تزال مجرد حبر على ورق. ولكن ثمة منافسة طبيعية، ولا تزال السوق قائمة. أما المسألة السورية، فتعزز الاعتقاد أن تقديم التنازلات للمعارضة أو تبديل المواقف من أجل الحصول على مكاسب مستقبلية ليس تصرفاً منطقياً. في مطلق الأحوال، ستتبدل الأوضاع مرات عدة. وهذا هو على الأرجح الدرس الرئيس الذي يُستخلص من حرب العراق بعد مرور عشر سنوات: في عالم اليوم، تتبدل كل الأوضاع بسرعة، متخذةً اتجاهات غير متوقَّعة لا تتلاءم بالضرورة مع الحسابات الأولية.

Fyodor Lukyanov