مرت عشر سنوات منذ اجتاحت الولايات المتحدة العراق، علماً أن معظم الخبراء اليوم يعتبرون هذا القرار أسوأ إخفاقات السياسة الخارجية في زمننا، ولكن لِمَ نقول "معظم"؟ ما زال الرئيس السابق جورج بوش الابن وكبار مساعديه يصرون على أن الغزو كان فكرة جيدة، مع أن الأساس الذي استندت إليه الحرب (أن صدام حسين يملك أسلحة دمار شامل) كان خاطئاً، ومع أن هذه الحرب حصدت أرواح أكثر من 4500 أميركي و127 ألف عراقي، وفق التقديرات.

Ad

لا يزال الجدال بشأن الإخفاقات التي ارتُكبت (وبشأن مَن يتحمل اللوم أيضا) محتدماً. فهل تعود هذه الإخفاقات إلى المعلومات الاستخباراتية السيئة؟ القرارات السياسية الخطأ؟ ضعف الكونغرس؟ وسائل الإعلام التي لم تشكك كفاية بقرار الحرب؟ أو على الأرجح إلى كل هذه الأمور معاً؟

يرتبط السؤال الأهم الذي يجب أن نطرحه بالمستقبل: هل تعلمنا العبر من هذه التجربة كي لا نعاود الوقوع في المشكلة عينها في المستقبل؟ لربما كنا سنشعر براحة كبيرة لو كان هذا السؤال بيانياً، لكنه ليس كذلك. ثمة أوجه اختلاف كبيرة بين صراع الولايات المتحدة مع إيران ومواجهتنا مع العراق، لكننا نعتمد على أجهزة الاستخبارات ذاتها لجمع المعلومات ونستند إلى النظام السياسي عينه لاتخاذ القرارات.

تضمن قرار إدارة بوش غزو العراق ثلاثة أخطاء رئيسة، مع أننا لا نحاول بقولنا هذا تبسيط تاريخ معقد مليئاً بالإخفاقات: كان الخطأ الأول الافتراضات المبالغ فيها: فقد اعتقدت الإدارة أن غزو الولايات المتحدة العراق لن يطيح بصدام حسين بسرعة فحسب (وهذا ما حدث)، بل إنه سيؤدي أيضاً إلى عملية انتقال سريعة وقليلة الكلفة إلى نظام الحكم الديمقراطي (وهو ما لم يحدث). كان الخطأ الثاني المعلومات الاستخباراتية المغلوطة: الافتراض (الذي دعمته المعلومات غير الدقيقة) أن صدام ما زال يحاول على الأرجح تطوير أسلحة دمار شامل لأنه كان يعمل على أسلحة من هذا النوع من قبل.

أما الخطأ الثالث، فكان سوء استخدام هذه المعلومات: الضجة الكبيرة التي أثارها حول قضية صدام حسين أنصارُ الحرب، الذين استغلوا معلومات غامضة ليحذروا من أنهم لا يريدون "أن يكون الدليل الدامغ سحابة نووية"، حسبما قالت آنذاك وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس.

لنتأمل في هذه الأخطاء الثلاثة كل على حدة.

يبدو أننا شفينا من الافتراضات المبالغ فيها، في الوقت الراهن على الأقل، فما من أمر يضاهي عقداً من الحروب الطاحنة لنتعلّم أن الغزو ليس سهلاً وأن محاربة التمرد ليست عملية خاطفة، لكن إدارة أوباما بالغت في التمسك بهذه العبرة، مترددة طويلاً قبل أن تقرر تقديم الدعم العسكري غير المباشر للمتمردين في سورية.

لكن العبر سرعان ما تُنسى، فلم تمر سوى 15 سنة بعد انتهاء حرب فيتنام المأساوية لتعود الولايات المتحدة إلى شن الحملات العسكرية الواسعة النطاق ضد العراق في حرب الخليج عام 1991. أما في مسألة المعلومات الاستخباراتية، فقد بذلت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية وغيرها من الوكالات جهوداً جبارة كي لا تقع في الأخطاء عينها مجدداً. يعتبر محللون كثر أن مرحلة العراق شكّلت إخفاقاً مهنياً قاتلاً.

 أخبرني أخيراً جون ماكلولين، الرجل الثاني في وكالة الاستخبارات المركزية آنذاك: "لا يمكننا تبرير الأخطاء التي ارتكبناها في مجال الاستخبارات، لا تنفك هذه الأخطاء تشغل بالنا... لذلك أمضينا العقد الماضي في التفكير ملياً فيها".

منذ حرب العراق، تطلبت وكالة الاستخبارات المركزية وغيرها من الوكالات أن يضمن كبار المسؤولين شخصياً نوعية المعلومات التي يقدمونها. لذلك صاروا يعبّرون بوضوح أكبر عن مدى مصداقية (أو غياب مصداقية) مصادرهم. كذلك صاروا يُخضِعون القرارات الكبرى لأحكام "فرق حمراء"، أي تمارين تُظهر ما إذا كانت الاكتشافات الأخرى المختلفة منطقية أيضاً.

إذن، هل من الممكن الوقوع مجدداً في شرك المعلومات الخاطئة؟ يجيب ماكلولين: "هذا ممكن بالتأكيد. فنحن نتعامل مع معلومات غير مكتملة تصلنا تدريجياً وتحت الضغط إلى أن نتوصل أخيراً إلى الخلاصات النهائية... علاوة على ذلك، ترتبط هذه المعلومات بالكثير من محاولات الخداع. لذلك لا يمكننا البتة أن نضمن عدم الوقوع في الخطأ مجدداً".

تُعتبر المشكلة الثالثة الأكثر صعوبة: تسييس المعلومات الاستخباراتية. قبيل الغزو، بالغ كبار مسؤولي إدارة بوش مراراً في عرض القضية ضد صدام حسين في إطار حملة محددة هدفها إقناع الكونغرس والشعب أن الحرب ضرورية.

ومن أبرز هؤلاء المسؤولين نائب الرئيس ديك تشيني، الذي أعلن للناس أن الولايات المتحدة متأكدة من أن حسين "أعاد بناء" برامجه الكيماوية، والبيولوجية، والنووية العسكرية، وأن أحد خاطفي طائرات الحادي عشر من سبتمبر التقى مسؤولاً استخباراتياً عراقياً، علماً أن هذا الادعاء دُحض لاحقاً.

أدرك المسؤولون الاستخباراتيون أن بعض هذه المعلومات على الأقل كان مغلوطاً، لكنهم ترددوا في معارضة المسؤولين الأعلى منهم شأناً. أما مَن قرر كشف الحقيقة، فلم تتوافر له وسيلة سهلة لتصحيح المعلومات التي كانت تصل الشعب.

حتى عندما عارض المسؤولون الاستخباراتيون المعلومات الخاطئة، ما كان كثيرون يكترثون. ففي مرحلة ما، أبلغ ماكلولين لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ أن وكالة الاستخبارات المركزية لا تظن أن صدام حسين قد يستخدم أسلحة كيماوية ضد الولايات المتحدة. ولكن "لم يكن لذلك أي تأثير يُذكر" في الجدال الدائر، وفق ماكلولين.

يعتقد بعض المسؤولين الاستخباراتيين المخضرمين أن هذه المشكلة لم تُحَلّ البتة، يذكر بول ر. بيلر، الذي كان أحد كبار محللي شؤون الشرق الأوسط في وكالة الاستخبارات المركزية في مرحلة ما قبل الحرب: "لم نتعلم معظم العبر". ويشير إلى أن إدارة بوش كانت ستفوز بموافقة الكونغرس على الحرب "حتى لو قدمت أجهزة الاستخبارات معلومات دقيقة عن أن صدام حسين لا يملك أسلحة دمار شامل".

اقترح بيلر تحويل وكالة الاستخبارات المركزية إلى وكالة مستقلة، مثل نظام الاحتياطي الفدرالي، مع تحديد ولاية رئيسها بعشر سنوات بغية حمايته من الضغوط السياسية، لكنه لا يتوقع تطبيق هذا الاقتراح في المستقبل القريب.

إذن، هل تعلمنا ما يكفي من الدروس لتفادي مغامرة عسكرية أخرى لا تُحمد عقباها؟

من المرجح، على الأمد القصير على الأقل، أننا لن نغامر بخوض حرب برية أخرى، سواء أكان ذلك في إيران أو أي دولة أخرى. كذلك سيُخضِع الكونغرسُ، ووسائلُ الإعلام، والشعبُ الأحكام الاستخباراتية للمزيد من التدقيق. ولن يتردد المسؤولون الاستخباراتيون في فضح زيف أي معلومات قد تُنشر. ولكن هل نتمكن من تذكر هذه العبر بعد 15 أو 20 سنة؟ إذا تأملنا التاريخ، نجيب بالنفي.

* دويل ماكمانوس | Doyle McManus