عبد العظيم فنجان في «الحبّ حسب التقويم السومري»

نشر في 31-07-2013 | 00:01
آخر تحديث 31-07-2013 | 00:01
No Image Caption
من أجل كرسيّ سيبقى فارغاً في أعماق الأغنية

في جديده «الحبّ، حسب التقويم السومري»، يمضي الشاعر العراقي عبد العظيم فنجان قِبلة أنثاه معلّقاً محبرته بطرف عصاه، مضيئًا في ظلام الأسطورة عينيه الموشومتين ببريق الرغبة، ناحتاً بيديه الفارغتين، إلاّ من التّوق، كلّ صباح تمثالاً لا تعيش فيه امرأة لغد، لأنّ المرأة التي ينشدها قد لا تحلو لها الإقامة خارج القصور المبنيّة بحجارة الشوق في مرتفعات الأناشيد حيث للروح أن تصل غير أنّها لا تقوى على اصطحاب الجسد، لذلك هي تصل طاعنة في وحدتها.
يقول رجل: «أحبّ امرأة». أين وجدها؟! هل هي مقيمة في ذاتها أم أنّها في الطريق إلى ذاتها؟ متى تصير واحدة؟ أو متى تجمع تعدُّدها فيها؟ من أين لها أن تكون في لحم ودم؟ كيف تُوفّق بين وجودها في الحقيقة – إن وُجدت – وبين وجودها في رغبة رجل يحبّها؟... سبحة أسئلة تتّسع لأن تكون خيمة مبنيّة بعلامات الاستفهام لا ينمو في ظلالها سوى حلم جميل اسمه: «المرأة».

ماذا يريد عبد العظيم، الشاعر الشاعر العراقي المرتاح لظلّه «على طاولات الحانات وفي زوايا المقاهي وعلى أسرّة الفنادق؟» أيّ امرأة يرمي لها شبكته في مياهه المنتسبة إلى غمام القصيدة؟ من بداية البوح في «الحبّ، حسب التقويم السومري» يعرف القارئ أنّ أنثى الشاعر تسكن صعوبتها لأنّها موزَّعة على الأوطان وعلى كائنات لغويّة محسوبة على الجمال: «... تشعّبتِ في البلدان / وتفرّقَتْ روحك بين القصائد والأغاني»، ولا يقتصر التشعّب والتعدّد عليها، فالشاعر أيضًا تناثر في «الحيارى والمجانين والغرباء والسكارى والأنبياء والصعاليك والفلاسفة... وتشعّبَت روحه بين أجسادهم»... إذًا، إن عبد العظيم يفتح أشرعته فتحة كاملة ويعرف أنّ وصوله في اللاوصول، وأنّ رحلة الصيد هي في صعود الجبال ونزول الوديان قبل أن تكون في عدّ ريش جناحَي الطائر الغريب المتنازِل قسرًا عن ما فيه من فضاء وحريّة وحياة.

وليس الشاعر وحده ماضيًا إلى أنثاه، إنّما الرجال كلّهم يمضون على طريق رغبته، يقصدون الأنثى نفسها، المرأة التي يرغب إليها عبد العظيم، وهي واحدة للجميع، ترضيهم كلّهم إن استطاعوا إليها سبيلاً، هي المرأة-النساء، هي التي تموت إن خرجت من حنينهم وتجسّدت امرأة أمامهم: «... كانوا يصنعون تمثالاً لك بما جمعوا. / كانوا ينتظرون أن تنتقل إليه أرواحهم، فيعيشون فيكِ / كانوا... / فيما ينهون مهمّتهم / ... سرتِ فجأة، ومشيتِ من بينهم عارية /... كانوا قد أصبحوا تماثيل».

جمال الغرابة

المرأة صخرة «سِيزيف» عند عبد العظيم، حين يصل بها إلى قمّة روحِه تتوارى، وترجع إلى الفكرة، إلى المكان الأوّل الذي يقيها العمر وسنّ اليأس ويقيها الحياة والموت في آنٍ واحد.

ولا شكّ في أنّ عبد العظيم يحسن أن يكون جديدًا ويؤدّي جملة غريبة يجد القارئ جمال الغرابة بينه وبينها لا وحشة الغربة، وذلك على تكثيف خفيف الظلّ، وعلى مجاز لا يُظهر عَرَق صانعِه لأنّه ابن خيال موصول بدفء الحالة الشعريّة: «... كانوا يعثرون على خطوات بعضهم البعض فوق أرض روحِكِ». فكم أنّ هذه الخطوات التي فوق بعضها لسائرين متعدّدين تصوّر استحالة الوصول وتظهر ساديّة الطريق بالنسبة إلى السائرين بكلّ ما فيهم من رغبة تئنّ في العزيمة، وعمر يتشظّى في اتّساع المسافة؟!

وإذا كانت المرأة فكرة فمن الحماقة الاستمرار في إقناع الجسد بالوصول، ولا بدّ من الارتقاء الصعب، من الاستقالة من الجسد طمعًا بالوصول إلى كينونة الفكرة، وهكذا تنازل الشاعر عن جسده. واجتاز مادّيته ليصير الإنسان خارج أسوار اللحم والدم: «تخطّيتُ جسدي وسكنتُ الفكرة»، وليصير الشيء الباحث عن سبب لوجوده، مثلما بستان شريد في براري الأزمنة، بستان لا ينقصه سوى الشجرة: «كنتُ البستان الذي يطوف الأزمنة بحثًا عن شجرة»، لكن هذا الطواف دائم السيزيفيّة، يطلع منه عطر المستحيل الذي حسْبُه أنّه عطر المستحيل: «فلا يعود العاشق من رحلته إلاّ بالغبار على القدمين».

وجمال البوح عند الشاعر أنّه لا يتعب من المحاولة، وأنّه يبارك خطْوَه في رحلة اللاوصول، ويثمِّن عجزه، وينتشي بفرح الرغبة، عائشًا لحلم جماله أنّه لا يصير حقيقة ولا يرتدي ثوب الفناء: «كأسي الفارغة على طاولة الحياة لن أتنازل عنها: إنّها مأهولة بعطشٍ جوهرُه أنتِ». وشيئًا فشيئًا يتّضح أنّ هذه المرأة إلهة قفزتْ من نافذة الأسطورة، إلهة تعيش على رماد ضحاياها، إلهة لا يتّسع الحجر في التمثال لها، كما لا يتّسع اللحم والدم، وليست كفاية من يحبّها أو يعبدها، لا فرق، سوى في عزائه بأنّه الضحيّة الجميلة: «عاشقكِ الذي يقود موكبًا من حطام تماثيله، وينحني أمام خرائب أجدادي السومريّين، ليقدّم لك طاعة من غبار».

وأنثى الشاعر لا تكتفي بتقطيب جروحه الوجوديّة، إنّما هي تعالج حزن الوجود وتعانق العالم فترتق ثيابه الممزّقة بخيط ضحكتها: «كنتِ تخيطين الشقّ في ثياب العالم بضحكتكِ». وليت عبد العظيم، القادر على التكثيف والضغط والاختصار الخصب، اكتفى ببعض الجمل نصوصًا قائمة بحدّ ذاتها، كما في قوله على سبيل المثال لا الحصر: «أريدك أن تجرّبي ألمي، لتعرفي ما يدور في نفس النار، عندما لا تجد حطبًا». وليته، أيضًا، ثابر على النصوص القصيرة كي لا يقع في فخّ الهدر اللغوي كما في بعض النصوص الطويلة نسبيًّا: «ربّما راودهم الشعور بأنّك محض أسطورة: كائن من كلمات، غير أنّ الوهم بأنّك امرأة حقيقيّة: صبيّة الأحلام والشعر وبطلة الروايات وشاشات السينما يجعل منك أملاً من أجمل ما يكون»...

بساط الرغبة

لا يضجر عبد العظيم، من ألف ديوانه إلى يائه، من الانهماك بموضوع واحد وهو: التمجيد والإكرام للمرأة التي لا تكون، ولا توجد، إلاّ على بساط الرغبة. ومن اللافت أنّه وقع في ما يشبه التكرار، رغم تعدّد الصُّور وتعدّد المقاربات، ورغم خصوبة خياله، وقدرته على أن يكون جديدًا في ما هو متكرّر. كما أنّ الرموز الأسطوريّة، وإن رافقتها الشروح في أسفل الصفحة، تعطّل الانسياب الشعري، وتحيل القارئ إلى مطارح معنويّة لا يحتاجها، فالمرأة التي يسعى عبد العظيم إليها لا تحتاج إلى «أتونابشتم»، على سبيل المثال، لتكون السمكة الطائشة التي تمزّق شباك الأفكار، والمرأة التي حين تفكّ أزرار رغبتها «يندلع القميص، وتفيض الأنهار، والترانيم، والمشاعل».

وصحيح أنّ نصوص المجموعة كلّها تنضح بما فيها من امرأة لا تصل إلى المرأة التي فيها، إلاّ أنّ نص «أغنية هي التي» يقول برمزيّته الشفّافة مفاتيح النصوص كلّها، وقد يكون مطلع هذا النصّ مختصرًا هَمَّ محبرة شاعر هي معلّقة أبدًا بطرف عصاه وهو إلى المرأة ينذر خطاه: «هذا الكرسيّ الذي لم يجلس عليه أحد، أحتفظ به في أعماق هذه الأغنية، من أجلها، هي التي تعربد في جسدها رعشة الأبديّة»...

back to top