إنكلترا حاضنة الثقافات
تتميز إنكلترا بأنها حاضنة لمختلف الثقافات بدون أي شعور بالعنصرية أو بالاختلاف، ما يجعلها مكانا صالحا للجميع، فالإمبراطورية التي كانت لا تغيب عنها الشمس، وانطوى تحت مظلتها شعوب العالم، امتصت ثقافاتهم المختلفة التي انصهرت وذابت في فنونها وعلومها وآدابها، شكلت واقعا فنيا ثقافيا وأدبيا غنيا انعكس في تراثها الذي خلفه كل هؤلاء العلماء والفنانين والأدباء الذين تمكنوا من الاطلاع على تلك الثقافات المختلفة عن ثقافتهم وتراثهم، فامتصوها وطعموا بها إنتاجهم الثقافي الإنساني الذي نراه ماثلا اليوم في المتاحف والمعارض الفنية والتشكيلية والكتابات الأدبية، وحتى في بعض الطرز المعمارية، وأنواع فصائل الزهور والأشجار والنباتات والثمار وحتى الطيور والحيوانات التي جيء بها من بلدان متعددة لتهجن وتدجن في عالم مختلف أعاد إنتاجها في صورة إما مطابقة وإما محسنة عنها.إنكلترا هي خير مكان وأفضل بيئة لاحتضان ورعاية التراث الإنساني الحضاري الثقافي، فهي سجل موثق لكل باحث ودارس وهاو، فهناك أرشيف واسع متعدد لكل من يبحث عنه، هذا عدا عن كل ما له وجود حي مجسد، مثل القصور والقلاع والكاتدرائيات والمتاحف والمكتبات والحدائق والبيوت الخاصة بالمشاهير الذين اعتنت إنكلترا ببيوتهم وأبقتها حية تعبق برائحة وجودهم، ولولا امتلاك الدولة ورعايتها لهذه البيوت والقصور والقلاع والحدائق لما تمكن وارثوها من المحافظة عليها، ففي بريطانيا لن يتمكن أي فرد من تملك عقاره إلى الأبد، فتكلفة الضرائب لا تمكن الورثة من المحافظة عليها، لذا باتت معظم الممتلكات المهمة والشهيرة تحت رعايتها، أو رعاية الشركات التي تعتمد على التبرعات الأهلية والحكومية.
من أهم هذه الممتلكات قصر وحدائق "هامبتون كورت" ملك إنكلترا هنري الثامن وزوجاته الست، ولأجل رعاية هذا القصر الرائع وللمحافظة على بنائه وأثاثه الملكي الفاخر ولوحاته وتماثيله وحدائقه الواسعة المتعددة في طرز تشكيلاتها وتنوعها، قامت هيئة كاملة لإدارته ورعايته عن طريق فتحه للجماهير بأسعار تختلف بحسب المواسم، كما تقام فيه المسرحيات والمهرجانات والمعارض الفنية المتنوعة التي تدر إيرادات عالية تمكن من المحافظة عليه. هناك المئات من القصور والقلاع التي تخلى وتنازل عنها الورثة لعدم قدرتهم على تحمل تكلفة رعايتها وضرائبها، وبعضهم ترك ممتلكاته لشركات تقوم برعايتها عن طريق التبرعات مثل قلعة وقصر "بتورث" و"بارهام" وبيت المخترع "اوفربيك" وحديقة "وينزلي"، وغيرهم الكثير، ما أعاد لها الحياة وحولها إلى أماكن للتعلم وللتنزه والترفيه والتسلية عن طريق البرامج التعليمية والفنية والثقافية والمهرجانات الموسمية التي تسعد جميع الأعمار، ومن أهم هذه الشركات التي تحافظ على التراث الحضاري لإنكلترا إلى جانب مؤسسة الدولة "انجليش هيرتج" وهي الأهم، هناك شركة "رويال هورتيكالتشر" و"ناشونال ترست"، كما توجد شركات ومؤسسات صغيرة تقوم بذات الدور لحماية أي تراث أو أثر فني أو ثقافي أو معماري أو طبيعي، فمثلا منطقة "الستونهيج" الأثرية القديمة المجهولة العصر تم تطويقها بسور أبعد الناس عن الاقتراب منها، كما وضعت لها تذاكر لمشاهدتها رغم أنها ليست إلا صخورا متراكمة فوق بعضها البعض بشكل عشوائي ربما كانت في زمن ما لها شكل أو غرض معين"وتصب شركات الرعاية اهتمامها الأعظم على بيوت العلماء والمشاهير، فمنزل وحدائق تشارلز داروين حول جزءا من البيت إلى تعليم الأطفال الصغار بمنجزات داروين عن طريق وضع أدوات ومجسدات تشرح وتبين أبحاثه ونظرياته، وهو الدور الذي تركز عليه الثقافة الإنكليزية لأجل غرس حب العلم والاكتشافات وحب المعرفة منذ الصغر، وهناك المئات من العلماء من الذين تأثروا بدور وشخصية داروين وإسحاق نيوتن، ما أدى إلى زيادة أعدادهم.الشخصية الإنكليزية بطبعها شغوفة بالمعرفة بكل أشكالها، وعاشقة للتراث وللطبيعة ولحب المساعدة والخير الإنساني، لذا تجدها متعاونة في الحفاظ على كل أثر تاريخي ثقافي طبيعي حضاري أيا كان مصدره أو منبعه، ما يساعد الدولة في المحافظة على الإرث الإنساني المتراكم والهائل في بريطانيا.لهذه الأسباب أرى إنكلترا بالنسبة لي هي أفضل بلد للتقاعد، بسبب غزارة تراثها الحضاري المنوع والمطعم بنكهات ثقافات حضارات مختلفة، إلى جانب طبيعة الشخصية الإنكليزية الهادئة البعيدة عن العنف والعصبية والعجرفة التي تسم بعض الشعوب الأوروبية وتصعب التعامل معها.