وصايا الإبداع الأهم!

نشر في 12-02-2013
آخر تحديث 12-02-2013 | 00:01
 طالب الرفاعي كما هو المنظر اللافت يعلق بالذاكرة، فكذا بعض الكتب، تكون بمنزلة اللُقية حين يعثر عليها القارئ، ويستمتع بعالمها، لتصاحبه بقية عمره. يعود إليها كلما اشتاق للتمتع بمناظرها، وكلما احتاج إلى الاستزادة مما خبأته مغاراتها العامرة بكنوز المعرفة.

كتاب "ست وصايا للألفية القادمة- محاضرات في الإبداع" للكاتب الإيطالي إيتالو كالفينو (Italo Calvino (1923-1985، ترجمة محمد الأسعد ومراجعة د. زبيدة أشكناني، وصدر يحمل رقم 321 في سلسلة "إبداعات عالمية" عام 1999، عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. هو أحد الكتب اللقية، ومنذ وقعت عيناي عليه، وأنا أعود إليه بين الفترة والأخرى، لاكتشف معاني جديدة مخبأة بين جنباته.

يتناول الكتاب محاضرات كان من المفترض أن يلقيها كالفينو في جامعة هارفارد، إلا أنه توفي عشية سفره لإلقائها، وإضافة إلى ملحوظة المؤلف، يحتوي الكتاب على خمس محاضرات: الخفة، السرعة، الدقة، الوضوح، التعددية. ما يلفت النظر في الكتاب هو قدرة الكاتب الفذة التي تستند إلى خبرة كتابية تجاوزت الأربعين عاماً، وسعة اطلاع تجمع بين الفلسفة وعلم الجمال والكتابة الإبداعية، وإذا كان صاحب نوبل الروائي ماريو فارغاس يوسا، قد توجه للكاتب الشاب في كتابه "رسائل إلى روائي شاب" ليتناول الجوانب المختلفة لفن الرواية. فإن محاضرات كالفينو تخوض في الإبداع، ما يجعل نظرتها أكثر شمولاً، ويجعل مدى الاستفادة أوسع، كونه يخص المبدع بعموم الأجناس الأدبية.

كالفينو لا يوجه رسائل مباشرة، لكنه يتكلم عن قناعاته الشخصية، فهو يرى أن "على كل كاتب شاب أن يمثل زمنه في أدبه"، ويلفت نظر القراء إلى أن أعمالاً بعينها تتصف بما لا يتصف به غيرها: "تظهر لنا رواية كونديرا، كيف أن كل ما نختاره ونمنحه قيمة في الحياة بسبب خفته، سرعان ما يكشف عن ثقله الحقيقي الذي لا يُطاق"، وهذه العبارة تصدق على الفن، لكنها تصدق على حياة الحياة، وتجعل القارئ يقف أمامها مبهوراً بفلسفتها متى ما طبّقها على العلاقات الإنسانية بين البشر. فالحب كم يكون خفيفاً على الروح في بداية دربه، وكم يثقل عليها ويهلكها متى ما تمكن منها؟

إن ما يجعل من هذه الوصايا دستوراً للكاتب الشاب تحديداً، هو ربطها لعالم الكتابة بعالم الحياة المتغير والخاص في كل بيئة وفي كل مجتمع. كما أنها تنبّهه إلى ضرورة أن يكون واعياً لكل ما يحيط به من ظواهر الطبيعة، يتأملها ويستنبط منها ما يجعله قادراً على تقديمها للقارئ، وكأنها اكتشاف لا مثيل له: "إن الفراغ ملموس شأنه شأن الأجساد الصلبة المصمتة"، وأن الكاتب كلما تعمق في معرفة العالم، استطاع أن يزيح عنه غطاءاته السطحية ليكتشف القوانين الحقيقية التي تحركه وتتحكم في مسيرته.

يتناول المؤلِف مختلف وحدات الإبداع، بدءاً باللغة: "لن نكون قادرين على تثمين خفّة اللغة، إذا لم نستطع تثمين لغة على شيء من الثقل أيضا"، مروراً بكون الأدب بحثاً عن المعرفة، وتعريجاً على الكثير من التعريفات "القصة القصيرة سيرورة تتم على امتداد الزمن الذي تستغرقه، سحر يؤدي فعله خلال مرور الزمن، إما بتقليصه أو تمديده"، كما أن الكاتب يصل إلى استنتاجات غاية في الأهمية، حيث في محاضرة السرعة، يرى أن "الحديث يشبه المسير"، وهذا يعني أنه مثلما سرعة سير أي وسيلة نقل تحدد راحة الراكب، فإن متعة القراءة مرتبطة بانسيابية النص. وارتباط هذا كله بالمقولة اللاتينية "اسرع بتمهل".

إن التعلم صفة تلازم المبدع، متى ما أراد لأدبه أن يبقى متطوراً مسايراً للحياة، لذا فإن قراءة بعض الكتب مهم وربما أهم من الكتابة نفسها.

back to top