البرلمان، مجلس الأمة في حالتنا، من حيث فكرة الإنشاء الدستورية وفلسفة المعنى، هو أنه سلطة الشعب التي تقوم بوضع تشريعات البلاد ومتابعة الحكومة التي هي السلطة التنفيذية ومراقبتها ومواجهتها، ومنطق الأشياء يقول بأن تكون السلطتان على قدر من التوازن، وكأنهما على كفتي ميزان، حتى لا تطغى إحداهما على الأخرى منذ النشأة وبداية التكوين.

Ad

ولنتخيل المشهد كفريقين لكرة القدم يلعبان أمام بعضهما بعضاً، فليس من المعقول أن يكون لأحدهما فرصة التجانس ووجود قائد الفريق وفرصة التنظيم، ويجبر الآخر على تجميع لاعبيه وتكوين فريقه من نواحٍ متفرقةٍ ومشارب شتى بلا رابطٍ مشترك ولا خطةٍ موحدة، بل يترك لكل لاعب منهم أن يلعب كيفما يشاء وكيفما اتفق!

لهذه الفكرة البدهية المبدئية نقول إن برلماناً يقوم على انتخاب بصوت واحد ليس ببرلماناً أبداً، لأن البرلمان يجب أن يؤسس على فكرة فرق العمل والعمل الجماعي كي يتسنى له أن يُشكِّل سلطةً مقابلة وموازية يمكن لها أن تقابل وتواجه سلطة الحكومة التي أعطيت الفرصة لتتكون ابتداءً على أساس فريق العمل الذي قامت باختياره القيادة العليا ورئاسة الوزراء، ليكون متجانساً متناسقاً، وحين يتم تحجيم آلية الانتخاب واختزالها في الصوت الواحد، فإن هذا لا يمكن أبداً أن ينتج برلماناً فاعلاً أو سلطةً قادرةً على التشريع الجماعي والرقابة والمواجهة، بل أفراداً مشتتين لا يرتبطون ببرنامج موحد أو تنسيق مبدئي مشترك إلا في الحدود الدنيا التي قد تتكون لاحقاً لأهداف وقتية ضيقة غالباً، وهو الأمر الذي سيجعل الغلبة والتفوق منذ اللحظة الأولى للسلطة التنفيذية/ الحكومة.

البرلمانات الحقيقية في كل العالم لا تتكون بانتخاباتٍ تقوم على صوتٍ واحدٍ للناخب، إلا إذا كانت تقوم على أساس القوائم، فيقوم الناخب حينئذٍ بالتصويت لقائمةٍ كاملةٍ تحوي داخلها عدداً ما من المرشحين. الصوت الواحد لا يستخدم إلا في الانتخابات الرئاسية على سبيل المثال، أو في انتخابات المجالس البلدية.

وهكذا فإن السلطة وحينما أقدمت على جعل آلية انتخاباتنا البرلمانية تقوم على صوتٍ واحدٍ يتيمٍ لكل ناخب فإنها أرادت أن تجعل من البرلمان أشبه ما يكون بمجلسٍ بلديٍ خدماتيٍ فحسب، ينطلق أعضاؤه، لا من البرنامج المشترك والرؤية الجماعية للتشريع ومراقبة ومواجهة السلطة التنفيذية، إنما من المصالح والمطالب الحياتية والهموم الفردية الضيقة لناخبيهم، وهي التي سيظل يراعيها المرشح الفائز دائما وفي المقام الأول وقبل أي شيء آخر، لأن هؤلاء الناخبين، وبكل بساطة، هم أصحاب الفضل في إيصاله إلى هذا المجلس الذي صار خدماتياً بطبيعته التكوينية الجديدة!

عندما قامت السلطة باختزال الانتخابات في صوتٍ واحدٍ، فإنها أرادت قصداً تحطيم بقايا قوته الجماعية وشرذمة نوابه وإفراغه من محتواه التشريعي والرقابي، وهي القوة والمحتوى اللذان كانا ضعيفين أصلاًَ عندما كان الانتخاب على أساس الأصوات الأربعة لا القوائم والأحزاب.

لهذا كله يا سادتي أقول إن برلماناً يقوم على انتخاب بصوتٍ واحدٍ وترشيحٍ فرديٍ ليس ببرلمان أبداً، إنما هو خدعةٌ كبيرةٌ، سيكون في أحسن حالاته مجلساً بلدياً آخر، وفي أسوأ حالاته، وهو المتوقع، مرتعاً للفساد والتنفع الشخصي وباباً واسعاً ستمر من خلاله كل قوافلِ فساد الحكومة!