-1-

Ad

أصبح مفهوم "الليبرالية الإسلامية" مفهوماً مثيراً لكثير من أعداء الليبرالية ومناهضيها على وجه الخصوص، والتي نرى، أنه لا خلاص للعرب إلا بهذه الليبرالية، ذات اللمحات واللُّمع التالية:

- علينا ألا نخلط بين الدين، والأصولية الدينية المتشددة، التي حاربت "الليبرالية الإسلامية"، فالدين "إيمان"، والأصولية الدينية المتشددة "عقيدة" مخالفة، كما يقول الفيلسوف المصري المعاصر مراد وهبة.

- والأصولية الدينية المتشددة، التي ناصبت "الليبرالية الإسلامية" العداء، جعلت من الإيمان معتقداً، تستعمله لخدمة أغراضها السياسية، والدينية، والأيديولوجية.

- "الليبرالية الإسلامية" هي الدين في بيانه، وقيمه، وإخباره، والأصولية الدينية المتشددة اجتهادات، وتراكم أحكام، ومراقبة، وعقاب.

- جمهور "الليبرالية الإسلامية" هم الخاصة، وجمهور العداء لهذه الليبرالية هم العامة من أتباع التديّن الشعبي.

- الليبرالية الإسلامية" تهدف إلى تكوين صالحين، ودعاة خير ومحبة. والمعادون لها يهدفون إلى تكوين إرهابيين، بدعوى الدفاع المسلح عن الحقيقة المطلقة، التي لا جدال فيها. فإما معنا، وإما الموت. وهذا ما حصل منذ فجر التاريخ حتى الآن. فسقراط كان ضحية هؤلاء أصحاب الحقيقة المطلقة المتشددين، عندما تعرّض لها، وسخر منها. وغاندي كان ضحيتهم كذلك. وحديثاً قتلوا إسحق رابين، وأنور السادات. وهم الآن ينشرون الفوضى والدمار والحريق في مصر الكنانة.

- "الليبرالية الإسلامية" هدفها كل الناس، دون استثناء. وأعداؤها هدفهم فئة معينة، قابلة للتسييس والموت.

- الخلاف الحاد بين "الليبرالية الإسلامية" وأعدائها المتشددين، يتمركز حول دعوة الفكر الليبرالي إلى قراءة النصوص الدينية المقدسة، قراءة تاريخية ومجازية -كما نادى ابن رشد، بوجود معنى ظاهر، وآخر باطن (المجاز) للنص، ومعنى للخاصة ومعنى للعامة- وليست قراءة حرفية، تواكلية، تسليميّة، مسبقة.

-2-

نادى طه حسين منذ ثلاثينيات القرن العشرين الماضي، في مقالاته في جريدة "السياسة" المصرية (لسان حال الدستوريين المصريين الأحرار) بالمبادئ الليبرالية الإسلامية. فشدد على قيمة التعليم وأهميته.

وكانت فلسفته في التعليم، تتركز في إقرار "المجانية"، لكي تتاح فرصة التعليم للجميع، الغني والفقير، المسلم وغير المسلم، والأسود والأبيض. وربط بين التعليم وبين الديمقراطية، وتوصل إلى أن الدولة التي لا تنشر التعليم وتؤكد عليه، دولة غير ديمقراطية. وقال في كتابه: "الدولة الديمقراطية ملزمة أن تنشر التعليم الأولي، وتُوكَّل لشؤونه كلها". ("مستقبل الثقافة في مصر"، ص 61). ولم يكف طه حسين عن الحديث عن قيمة التعليم وأهميته، فقرأناه في كتبه المختلفة: "روح التربية"، و"القصر المسحور"، و"أحلام شهرزاد"، و"شجرة البؤس، و"المعذبون في الأرض"- وغيرها من الكتب، كيف يشدد على أهمية التعليم، وقيمه الكثيرة، وأن الخلاص من التخلف، والفقر، والجهل، لن يتم إلا بالتعليم. وتلك الدعوة إلى التعليم كانت من صميم قيم "الليبرالية الإسلامية"، فالإسلام حثّ على التعليم والعلم في عشرات المواقع والنصوص، وأكد على التعليم والعلم تأكيداً شديداً.

-3-

وعندما بدأ طه حسين يكتب كتبه: "على هامش السيرة"، و"الشيخان"، و"علي وبنوه"، و"مرآة الإسلام"- وغيرها من الكتب، ظن أعداء وخصوم "الليبرالية الإسلامية" أن طه حسين بهذه الكتب، يعتذر -بشكل غير مباشر- عن ليبراليته التي أعلنها في كتابه المثير "في الشعر الجاهلي". ولم يدرك هؤلاء الخصوم، أن طه حسين كان في هذه الكتب يؤكد ليبراليته الفكرية في أن الحقائق التاريخية لا بُدَّ لها أن تخضع للبحث والنقاش، وأن السياسة يجب أن تكون على الحياد بين الجميع، فلا تتشيع لفريق ضد آخر، كما حصل في العهد العباسي، وعهود أخرى سابقة ولاحقة. وخان النقد الإيجابي بعضهم حين ظن، وكتب، أن طه حسين ارتد عن "ليبراليته المزعومة"، في كتبه التراثية كما قال المؤرخ ألبرت حوراني في كتابه (الفكر العربي في عصر النهضة). ولم يدرك هؤلاء أن طه حسين أراد أن يقترب بليبراليته من سواد الناس المتدينين تديناً شعبياً فطرياً بسيطاً. وأن يكسب إلى جانبه وجانب أفكاره المزيد من الأنصار المهمشين.

-4-

يقول الباحث المصري مصطفى عبدالغني في كتابه "طه حسين والسياسة" إن ليبرالية طه حسين الإسلامية، أكدت له أنه ليس بالعقل وحده تستقيم الحياة وتزدهر. ففي كتابه "على هامش السيرة" يقول طه حسين صراحة، وبشجاعة متناهية:

"هناك قوم سيضيقون بهذا الكتاب، لأنهم محدثون يُكبرون العقل، ولا يثقون إلا فيه. والعقل ليس كل شيء".

وعلينا ألا ننسى، أن خصوم طه حسين في النصف الأول من القرن الماضي، كانوا من داخل مصر، ومن خارجها، إضافة إلى الجهات الرسمية المصرية. ولكن طه حسين مضى في دعوته، رغم كل العقبات التي اعترضته في طريقه، وراح في كتابيه "أديب"، و"من بعيد"، يقف كمثقف حر في وجه الطغيان، مطالباً ومشدداً على الحرية والديمقراطية. ومن يستطيع أن ينكر أن الإسلام كان ومازال دين الحرية، ودين المساواة، ودين التعددية، وهي المبادئ والقيم الليبرالية المشهورة والمعروفة، والتي أشار إليها طه حسين في كتابه "من بعيد" حين قال: "نتحسر على تلك العهود التي كنا فيها نفكر ونقول كما نريد أن نفكر، ونقول. وكنا ننظر إلى الجهاد في سبيل الرأي وحرية الرأي، على أنه حاجة من حاجات الحياة وضرورة من ضرورات الوجود الحر، فأين نحن من هذا الوجود؟" (ص 5-6).

ولو كان طه حسين بيننا الآن، وشهد قمع بعض الأنظمة العربية لحرية الفكر والرأي، والرأي الآخر، لحمد الله وشكره على ما كان فيه من حال في النصف الأول من القرن الماضي. لقد أصبحنا الآن بحاجة ماسة إلى "الليبرالية الإسلامية"، التي وحدها هي التي ستُرسي أركان الحرية والديمقراطية المفتقدة الآن.

* كاتب أردني