مقاطع من سيرة شعرية (5)

نشر في 12-02-2013
آخر تحديث 12-02-2013 | 00:01
 د. نجمة إدريس ما أصعب أن يحدد الإنسان طريقه العلمي وهو دون العشرين! إذ رغم تبرعم الوعي وبروز الميول، تظل غمامات الغفلة والتوهان من سمات الطفولة المتبقية. لا أدري لماذا تهتُ وأنا في الصف الرابع الثانوي في غابة الاختيارات، وتوجهتْ أصابع عشوائية نحو تخصصين من تخصصات الجامعة: الحقوق أو الجغرافيا! وما كان لي نسبٌ مع الحقوق ولا صلة بالجغرافيا. ولكنها مجرد كرة روليت أقذفها وأظل أراقبها ببرود، حتى تقف عند ما تشاء هي من فجوات وأرقام!

ولكن يبدو أن لمخططات أقدارنا أعاجيبها! إذ لا تدري من أين يأتيك ذلك الطائر العجيب لينتشلك بمنقاره من متاهة المنعطفات ولزوجة الطحالب، ويلقيك برفق عند شاطئك لتكمل السباحة حراً نقياً. ما الذي كان يخبئه لي "الطائر الغريب" حين أتى بتلك الفتاة السورية الشاعرة بالذات دون سواها، في ذلك العام الدراسي بالذات دون غيره من الأعوام، لتكون معلمة اللغة العربية لفصلي بالذات دون غيره من الفصول ؟! ولماذا أشارت عليَّ وكأنها تصوّب بندقية صيد واثقة من رميتها: "عليكِ بدراسة الأدب العربي وعلومه دون غيره"! هل كانت أبلة "نوزت أبو شوشة" –وهذا اسمها– عرّافتي وقارئة طالعي؟! وهل كان أسلوبي في دروس "الإنشاء"، ثم قصيدتي اليتيمة التي صوّبتْ عروضها وأرجلها العرجاء ولثغاتها كافيين لأن تطلق نحوي رصاصة النجاة، فتنقذني من الحقوق أو الجغرافيا في آخر لحظة، وقبل الانتساب إلى الجامعة بشهر واحد؟! حقاً إن لأقدارنا أعاجيبها! أما الترتيب لهذه الأقدار وتنسيق ملابساتها فتلك أُحجية أخرى!

 كثيرون يراودون الشعر، وقد ينبغون فيه، دون أن يدرسوا علوم العربية وآدابها. وهذا أمر وارد حين تقودهم السليقة والميل، فيمرون برحاب الأدب وأبهائه كما يمرّ المتنزّه بالحدائق والبساتين فتعلق بثيابه روائحها وأنداؤها. ذاك حال المتنزهين والمتريضين من الهواة، ولكن حين تصبح العربية وآدابها قدراً ومهنة ودرباً من دروب الحياة،  فإن العلاقة مع الشعر تتخذ حينها وضعاً أكثر حساسية ورهافة، إن لم يكن أكثر توجساً ومسؤولية.

كانت الاعوام الجامعية الأربعة ما بين 1972 و1976 في قسم اللغة العربية بجامعة الكويت أعواماً مهمة في مقام الصقل والتشذيب والإعداد لتلك العجينة التي كنتُها. وكانت أعواماً مهمة أيضاً لتعلّم الالتزام العلمي والمتابعة الدؤوب للسلم المعرفي وتدرّجاته. وكانت أعواماً مهمة كذلك في مقام الإحاطة المنهجية الشاملة بالمشهد الأدبي والشعري الممتدّ من التراث حتى المعاصرة. فضلا عما حققته هذه الرحلة المعرفية من تقويم للسان والبيان، وما غرسته من وعي علمي بأدوات التعبير وقواعد اللغة وأصولها. وطوال هذه الرحلة المبهجة حيناً والمضنية حيناً آخر، لا تستطيع أن تلغي مشهداً وتُبقي آخر، أو تُسقط لبنة وتستند إلى أخرى. فكله بناء واحد متواشج يتنامى ويتكامل، وكله سمفونية متناغمة تنداح حتى نهاياتها لتوقّع ذبذباتها الأخيرة في العقل والذوق والروح والعاطفة.

 في هذا العالم السيمفوني الذي يتكون في داخلك، لا تستطيع أن تقول إن الشعر أجمل من النحو، أو النقد أيسر من البلاغة، أو الصرف أبسط من علم اللغة. تماماً كما لا تستطيع أن تفضّل طرفة بن العبد على أبي نواس،  أو المتنبي على أبي العلاء، أو قدامة بن جعفر على الجرجاني، أو الجاحظ على أبي حيّان التوحيدي، أو أحمد شوقي على بدر شاكر السياب. فأنتَ لستَ في مقام قبول وإلغاء أو ميل ونفور،  إذ كلهم حاضر وشاخص في تاريخ آداب الأمة وروحها، وعليكَ أن تتعرفهم وتلامسهم ما دمتَ في طور التعلّم والأخذ.

وكما كان للمعلومات المعرفية دورها في التثقيف والبناء، كان لأساتذتنا الأجلاء أثرهم في إشعارنا بقيمة العلم وهيبته، بما توحي به شخصياتهم من جلال ورسوخ ومقدرة. ولعلنا كنا الجيل المحظوظ الذي عاصر السنوات العشر الأولى من عمر جامعة الكويت، إذ خلال هذه السنوات كانت الجامعة تستقدم خيرة العلماء والعقول في شتى فروع المعرفة الإنسانية. ويكفي جيلنا اعتزازاً أنه تلقى علومه على أيدي شخصيات علمية وأدبية مثل: نازك الملائكة وشوقي ضيف وأحمد مختار ووديعة نجم وخديجة الحديثي ومحمد حسن عبدالله وغيرهم من الشخصيات العلمية.

ورغم أهمية مرحلة الجامعة، تبقى ولا شك مجرد جواز مرور أوليّ يؤهل لدخول الحياة والتعامل مع إشكالاتها ودروبها. ولعل الحياة بعد التخرج أو قُبيله بدأتْ تتخذ ملامح أكثر إبانة ووضوحاً.

back to top