استكمالاً لقراءة الواقع الثقافي لمأزق المرأة الشاعرة ، يطالعنا هذا المشهد مطالع القرن العشرين. فرغم ما شهده القرن العشرون من زخم سياسي واجتماعي وفكري، ورغم كل ما قيل عن مشاركة المرأة في الحركات التحررية الوطنية ومساهماتها في الحياة الاجتماعية، ثم في مجال تأسيس الجمعيات والهيئات النسوية، وسبقها في قطار التعليم والوظائف، إلا أن كل ذلك ما كان إلا لوناً من المراوحة المشوبة بالحذر والتوجس حيناً وبالكدح والمعاناة حيناً آخر. فالصورة المشرقة للمرأة المعاصرة التي ترسمها بعض الأقلام تحتاج غالباً إلى نظرة أكثر عمقاً وموضوعيةً لتتمكن من رؤية الجانب الآخر من تلك الصورة.
إن الميراث الاجتماعي والثقافي الذي تأسس في ضمير المجتمع ولاوعيه على مدى عمر هذه الأمة ليس من السهل - فيما يخص صورة المرأة - أن يتبدل في غضون عقود من السنوات، وإنما ظلت معايير تقييم المرأة من وجهة نظر ذكورية شبه ثابتة وحصينة. إن معارك السفور والحجاب، ومعارك تعليم المرأة، والجدل اللامنتهي حول علاقتها بالبيت وتصوّرها أداة إنجاب ومتعة وخدمة، انتهاءً إلى كدحها المضني في صنع خطابها اللغوي / الأدبي، كل هذه القضايا تظل قضايا مفتوحة وغير منتهية، والوصول إلى رأي حاسم إزاءها يبقى هو التحدي الأكبر رغم كل ادّعاءات التحديث والتطوّر. ولعل في التمثيل على معركة النقاب وحدود الحجاب ما يغني عن الإسهاب في غيرها من الأمثلة، فقد بدأت هذه المعركة منذ قرن من الزمان بدعوة قاسم أمين، وها هي تعود في وقتنا الراهن أشد سخونة وحضوراً!ولعله يُستحسن في هذا المقام أيضاً أن ندلل على مسألة المراوحة والتردد أو الإقدام والإحجام فيما يخص نية الارتقاء بالمرأة وإنصافها، إذ يكفي أن نذكر أن المرأة لم تكشف وجهها في مصر، (وهي المجتمع الأسبق تطوراً في منظومة المجتمعات العربية)، إلاّ بعد ثورة 1919م بعقد من الزمان أي في سنة 1929م. وكان يحدث أحياناً أن يقذف الناس في الشارع المرأة السافرة الوجه، وذلك بعد ربع قرن من صدور كتاب قاسم أمين "تحرير المرأة"! وذات التلكؤ إزاء الارتقاء بالمرأة نراه ممثلاً في سياسة التعليم وتأسيس مدارس البنات، التي تأتي متأخرة بالطبع عن مثيلاتها من مدارس البنين. فحين نرى أن أول مدرسة ثانوية للبنات في مصر على نظام مدارس البنين للمواد الدراسية العادية لا النسائية فقط، لم تُنشأ إلا عام 1925م، وأن أول مدرسة للبنات في الكويت لحقتها بعد ما ينوف على عقد ونصف، أي عام 1937م، نجد أن مدارس البنات في باقي دول الخليج العربي مثلاً لم تؤسس إلا في خمسينيات القرن العشرين.ولعل السياق عن تعليم البنات يقتضي إيراد استشهادين طريفين للباحث رجا سمرين في كتابه "شعر المرأة العربية المعاصر"، يوحيان بظلال تهكم واستخفاف بقدرات المرأة العقلية وجَلَدها على التحصيل والتفوق، حين يحدثنا الاقتباس الأول عن "الشيخة فاطمة العوضية":"وهي أقدم عربية تطلعت إلى نيل شهادة العالمية من الأزهر، وتلقت علومها على الشيخ الحفناوي في الجامع الأحمدي بطنطا. فقد قدمت سنة 1911م طلباً إلى مشيخة الأزهر تلتمس فيه السماح لها بالتقدم للامتحان، فسافرت لجنة من علماء الأزهر في ذلك العام إلى معهد طنطا لامتحان طلبته، وتقدمت الشيخة فاطمة للامتحان. ومع أن أعضاء لجنة الامتحان لم يكن من اتجاههم تخريج امرأة تحمل شهادة العلمية، فإن الشيخة فاطمة نفسها قد أصابها الخور والضعف ولم تتمكن من إكمال الامتحان، فلم تنل من ذلك مغنماً، وكان لرسوبها رنة أسف عميق في نفسها، فقضت نحبها بعد ذلك بزمن قليل". أما الاقتباس الثاني، فقد جاء فيه:"وقد طمحت إحداهن إلى الفوز بعضوية المجمع اللغوي بالقاهرة، غير أن الحظ لم يحالفها عند الاقتراع، ففشلت في الحصول على العدد الكافي من الأصوات التي تمكنها من الفوز بعضوية مجلس الخالدين".وبغض النظر عما يحمله الاقتباسان السالفان من ظلال تهكم وسخرية بقدرات المرأة العقلية والفكرية، فإنهما يدللان بما لا يدع مجالاً للشك ببقاء أمثلة تلك المؤسسات العلمية والثقافية" كالأزهر" و"المجمع اللغوي" معاقل ذكورية حصينة تستنكف الوجود النسوي وتحاصره، إن لم نقل تحاربه بضراوة.
توابل - ثقافات
مأزق المرأة الشاعرة (4)
09-07-2013