انتحار الجماعة
"هي جماعة ولدت على مقهى في مدينة الإسماعيلية وماتت في إشارة مرور رابعة العدوية" هذه إحدى النكات الكثيرة التي انطلقت في مصر عقب نهاية حكم "الإخوان" الذي استمر عاماً كاملاً، شعر كثيرون أنه عام لا ينتهي. والإشارة هنا طبعاً إلى مدينة الإسماعيلية التي شهدت مولد التنظيم عام 1928 على يد حسن البنا، وإشارة مرور رابعة هي المكان الذي تجمع فيه أنصار الجماعة أثناء دفاعهم عن جماعتهم التي أصرت قيادتها على الدفع بها إلى ما وصلت اليه.عندما بدأ زمن حكم "الإخوان" في مصر ظن الجميع أنه زمن يملك بداية وليس له نهاية، كان أكثر المتفائلين يتحدث عن سنوات تتجاوز أصابع اليدين وهناك من قال إن مصر قد استقلت قطار الحكم الديني الذي انطلق بها - إلى الخلف أو الأمام- ولن يتوقف قبل عشرات السنين، إذا توقف، وكيَّف البعض حياته على أن هذه الوجوه التي احتلت وجه الحياة المصرية أتت لتبقى، وعليه أن يتعايش أو يعاني أو يترك البلد إلى أرض الله الواسعة، ومن انطلق هارباً من حكم "الإخوان" ظن أنه هارب بلا عودة، ولكن فاجأنا الشعب المصري بما لم يتوقعه أكثر المتفائلين عندما خرج إلى شوارع وميادين مصر معلنا أنه لن يعود إلا بعد خروج "الإخوان"، وبدا أن قدراً غير مسبوق من الغضب يملأ نفوس الجميع، أظنهم لم يعرفوا أن هذا القدر من الغضب يسكن نفوسهم حتى وجدوا الفرصة لإطلاقه.
لقد تمكنت الجماعة من خلق حالة غضب ورفض عامة بين معظم المصريين حتى أن الأمر يحتاج ممن تبقى منتمياً إلى الجماعة حريصاً على مستقبلها أن يدرس هذه الظاهرة، لماذا كره المصريون "الإخوان" إلى هذا الحد في عام واحد؟! وأظن أن العناد والإنكار والتعالي الشديد على الشعب والإحساس بأنهم جماعة الله المختارة، لعل هذه العناصر تصلح كبداية للانطلاق منها إلى محاولة الفهم. دب الخلاف بين قيادات التنظيم الدولي للإخوان والمجموعة المسيطرة على إدارة الجماعة في مصر، فلقد أدركت قيادة التنظيم منذ اليوم الأول أن المعركة ليست في صالحهم، فطلبوا من قيادة الداخل اعتبار معركتهم مع الشعب المصري في الثلاثين من يونيو معركة خاسرة، وبالتالي فإن الأفضل أن يقدموا تنازلات بسرعة، ويقبلوا المطالب الممكنة جميعها من الجماهير، وكان منطقهم في هذا أن خسارة المعركة التي تبدو منتهية وفي غير صالح الجماعة، أفضل من خسارة كل الحرب، لذلك فليتنازل مرسي ولتبدأ الجماعة مرة أخرى في تنظيم صفوفها، واستغلال كل الإمكانات المادية المتاحة لإصلاح الشرخ الذي حدث مع الناس، بمعنى أنها خسارة لمعركة وليست خسارة حرب، كان الإدراك لديهم أن انكسار "الإخوان" في مصر بهذا الشكل سوف يؤدي إلى سقوط مدوِّ لهم في المنطقة بلا عودة قريبة. لكن يبدو أنه من حسن حظ المصريين أن قيادة الداخل للجماعة عجزوا عن الفهم، وخاصمتهم الحكمة والرؤية السليمة فأغشاهم ربهم، وقرروا الاستمرار في مواجهة الشعب، ويبدو أن جنون السلطة قد أصابهم، وأصاب مرسي شخصياً، فلم ير من كل هؤلاء الذين احتشدوا في كل مصر إلا مئة وستين ألفا فقط، هكذا قال للفريق السيسي عندما التقاه بعد انطلاق التظاهرات، وهذا أيضاً ما أبلغ به حلفاءه السابقين في الغرب، إذن كان الإنكار والمكابرة؛ وأضيف إليها: العشق الذي نما سريعا للسلطة وعدم القدرة على تخيل التخلي عنها، هو ما دفع تلك المجموعة التي كانت حاكمة، وعلى رأسها محمد مرسي؛ الذي كان رئيساً، وخيرت الشاطر؛ الرجل الذي كان قوياً ويدير شؤون مصر والجماعة ومعهم أتباعهم، كل هؤلاء تسببوا في انكسار الجماعة، ولم تعد المسألة خسارة معركة، بل خسروا حرباً سوف تدفع الجماعة كلها ثمنا كبيرا خلال الفترة المقبلة، قرار مرسي وجماعته بالاستمرار في عناد الشعب والتمسك بالسلطة كان أشبه بقرار انتحار سياسي وشعبي وتنظيمي للجماعة، واستمرار الدفع للصدام وممارسة الإرهاب كأسلوب للرد على ما حدث والدفع إلى استمرار مؤيديهم في إشارة مرور رابعة العدوية، هذا الموقف سيؤدي إلى حالة من الاحتقان والرفض لدى المصريين تحول بين الجماعة وبين المشاركة في مصر الجديدة.نجاح "الإخوان" في القفز على حكم مصر أعطى مؤشرات على أن المنطقة بدأت عصر الحكومات التي تنتمي للإسلام السياسي، وساهم في ذلك ما يحدث في تونس وليبيا وسورية، وزرع هذا تخوفاً وشكوكاً في أهداف الجماعة التالية، وكانت المؤشرات تقول إنهم يعملون من أجل القفز على الحكم في أي من دول الخليج ليضمنوا مصدر تمويل دائم، المشكلة أن كل هذا الحضور كان يحظى بدعم أميركي وغربي واضح لأنهم اعتبروا أن ذلك سيشكل لهم مخرجاً لكثير من المشكلات، ويشكل أساساً لأسلوب جديد في إدارتهم للأوضاع في المنطقة، وهذا يفسر حالة الصدمة التي أصيبوا بها عندما نجح المصريون بجيشهم الوطني في الإطاحة بحكم "الإخوان"، أو كابوس الجماعة.انتحرت الجماعة وأصابت الصدمة الغرب واستعاد المصريون بلدهم.