عن عنوان كتابه «الحجر والظلال... الشعر والسرد في مختبر القراءة»، يقول الباحث محمد الحرز: «إنه حجر النقد وظلال النصوص. عنوان فيه شيء من المفارقة، بين الحجر والظلال، لا توجد وشائج واضحة، ولا روابط يمكن الاعتماد عليها في تبرير التجاور اللفظي بين الكلمتين. فالحجر له سمة الصلابة والقوة والثبات بينما التمدد والخفة والمخاتلة والروغان هي من طبيعة الظلال. الحجر يشبه النقد حيث المقولات النقدية الكبرى لأبرز صانعي النظرية النقدية، التي كانت تستحوذ على الاهتمام الأكبر من التفكير النقدي، ولم تكن النصوص الإبداعية سوى حقل تجارب لتلك المقولات».

Ad

يشير المؤلف إلى أنه خلال الفترة الممتدة إلى أكثر من عقد، كان مأخوذاً بالمناهج النقدية حد الفتنة، وهو أمر يعتبره طبيعياً ولا بد منه لكل من أراد معرفة أسرار النصوص والتعالق معها من العمق، وكانت تلك المناهج أشبه ما تكون بمتاهة كبرى، يصعب معها الإلمام بأبعادها كافة وحقولها المختلفة. وعليه كانت الرغبة في الاستيعاب، كذلك الرغبة في الإمساك بأطراف تلك المناهج أوقع المقاربات النقدية الأولى في فخ التوظيف المشوه، والاقتباس المخل في بعض الأحيان بالسياق. حيث إن فكرة النقد لم تكن تخلو من سمة التعالي على النص الإبداعي، وبالتالي حينما تذهب أنت بمقولاتها إلى تحليل النصوص، فإنك سترى إلى نفسك وقد وطئت أرضاً بكراً قد استحوذت على كل ما فيها من كنوز ثمينة.

ويضيف محمد الحرز في مقدمة كتابه أنه لم يدرك إلا لاحقاً أن النصوص الإبداعية ليست سوى ظلال لا تفزع ولا تجفل، وبالقدر الذي ترمي عليها حجراً لا تستجيب إلا لماماً، حيث يكون الباب موارباً في أغلب الممارسات. أما بالقدر الذي ترش عليها الماء، وتحنو على أمكنتها، وتتأمل تفاصيلها ينقاد لك عنانها، وتنفتح أبواب السرية لبصريتك النقدية. وكلما تخففت من ثقل المقولات النقدية، وضغطها على تذوقك النقدي كان ذهابك إلى النص أبهى، وأكثر افتناناً ومحبة. وتضاف إلى هذا التخفف الخبرة الجمالية، التي لا تكتسبها إلا بالمران والتدريب.

كتابة جديدة

يعتقد الحرز أن الكتابة الشعرية الجديدة التي تشكلت في المملكة منذ نهاية عقد التسعينيات، تميزت بكونها تجربة نمت في محيط ثقافي أشبه ما يكون بالجديد على الثقافة المحلية. هذا المحيط هو مجموع الثقافة التي تشكلت من خلال عالم النت الافتراضي، وما أفرزه من شبكة واسعة من العلاقات الإبداعية، ومن تداعيات فكرية وثقافية ونفسية على المبدع نفسه، أثرت بصورة أو بأخرى أولاً على شكل الوعي الشعري، وثانياً على النص الشعري نفسه من جهة عدم ارتباطه بآليات النشر والخضوع لمعاييرها السلطوية، وما يتطلبه هذا الخضوع من تنازلات تمس غالباً القناعات الشعرية، في مقابل البحث عن مكانة في سياق التجارب الأخرى كما كانت عليه الحال عند الشعراء في فترة السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات. لكن هؤلاء الشعراء الذين تمايزوا عن غيرهم وجدوا أنفسهم قادرين على إيصال قصائدهم، وبسهولة ويسر، إلى قراء من مختلف أصقاع العالم، منهم المختلف، ومنهم المؤتلف.

يعزز هذا الوضع الفريد الرغبة في الاندفاع نحو الكتابة الشعرية من دون الإمساك بزمام الوعي بخصائص هذه الكتابة الفنية منها والأسلوبية من جهة، ويضفي عليها من جهة أخرى الإحساس بامتلاك ناصية الشعر من دون اختبار الذات وموضعها موضع التأمل والقلق والتجربة الحياتية التي تتطلبها مفاتيح الوعي الشعري.

وعينا القصصي

يلفت الكاتب إلى أن الوعي القصصي الحديث في جانب منه، ينطوي على مبدأ التعاضد الوظيفي بين ما هو شعري من جهة، وبين ما هو نثري من جهة أخرى، داخل السرد. ويشكل ذلك إحدى السمات الأساسية للعمل الروائي والقصصي من منظوره الأكثر وعياً باللغة. فالارتفاع بالسرد إلى مستوى من التكثيف الشعري، ليس مؤداه بالضرورة إلى قيمة إضفاء قيمة جمالية عليه، لأن السرد ينهض بالأساس بوصفه فعلاً استعارياً تأسست عليه رؤية متخيلة، تقترب من الواقع المعاش حسب الانزياح الفني للفعل الاستعاري ذاته. وهو انزياح يحقق قدراً من الشعرية، توظف كتقنية اندماجية في الرؤية السردية، وهي تقنية لا تأتي كبديل عن ابتكار الحدث، وليس بينهما تعارض، ينتج منهما تغليب أحدهما على الآخر.

لكن الوعي بالقص هو تحول في الكتابة الحديثة إلى إشكال لغوي. الأمر الذي يعزز فرضية القول إن اللغة لم تعد تمثل وسيطاً تعبيرياً عن السمات المتعارف عليها في القص مثل (الأحداث، الشخصيات، المكان، والزمان وغيرها)، بل أصبحت هي ذاتها مرجعية جمالية، تتجاوز الواقع من دون أن تلغيه. بمعنى أن لعبة اللغة غدت جزءاً أساسياً في المنظور القصصي للحياة والواقع والإنسان، فالأعمال الفنية، لصموئيل بيكيت أو انتونان آرتو أو جورج باتاي مثلاً، تمثل المنحى الحقيقي لهذا المنظور الواعي باللغة والحياة على درجة واحدة من التبصر والانفتاح، وعلى حساسية فنية عالية متفردة.

شعرية المعاناة

يشير الحرز إلى أن انفلات الذات الشاعرة واندفاعها إلى عوالم أكثر حرية وأكثر تماهياً مع أشياء الوجود وكينوناته، كذلك خروجها من أسر المنظومة المعرفية، عبر لحظة من لحظات المكاشفة الشعرية، ذلك كله يجعل المقاربة النقدية أكثر حيطة وحذراً في تلمس ورصد شعرية النص ذات الحساسية العالية، حيث الذات وهي تخترق عالمها الداخلي والخارجي على حد سواء، تؤسس بذلك عالماً خاصاً بكلمات حيث الشعر «يهب الأسماء التي تشكل الكينونة، وجوهر الأشياء، كما يقول مارتن هيدغر»، وحين تعتبر الكلمات أفعالاً أيضاً حسب الشاعر إمرسون.

وضمن هذا المنظور للقراءة، وما تشكله من أهمية في الكشف عن العلاقات الكامنة خلف النص لحظة ميلاده وتكوينه الانطولوجي، سننفتح على المشهد الشعري الحداثي في ساحتنا الإبداعية. والذي يسعى إلى تأسيس حدث الكتابة على نحو جديد ومغاير، وهو فيما يتحيز ويوسع يتسم بالتماسك الكلي، في بنيته الداخلية.