عودة الواقعية السحرية في {موسم الكبك}
احتفت الأوساط الأدبية في القاهرة بصدور الرواية الأولى للكاتب أحمد هاشم الشريف {موسم الكبك}، والصادرة حديثاً من {هيئة قصور الثقافة المصرية}. تتناول فصولها عالم قرية معزولة، وتستعيد أجواء الواقعية السحرية، ومصاير شخوص مولعين بالحكايات الخرافية.
تنطلق أحداث رواية أحمد هاشم الشريف {موسم الكبك} من فكرة {موسم الكَبك} بفتح الباء، وهو {موسم صيد لا يشبه مواسم الصيد الأخرى... موسم ليلي يبدأ قبل غروب الشمس ولا ينتهي ما دام الليل قائماً. يأخذ النيل عرضاً من الشرق إلى الغرب... شباكه عيونها واسعة تشفق على السمكات الصغيرات التي تنفلت منها مكتفية بالليل القاسي... صيادوه يبادرون الليل بصدورهم العارية... وشايهم الثقيل المر... وسجائرهم القليلة}. تبدأ الرواية بتقاسيم على لسان الراوي، ويسرد تاريخ قريته عبر أزمنة متداخلة، ويستعرض ملامح الأسلاف، ويضمن الأحداث بأمثال شعبية، ومعتقدات تتماهى مع الخرافة {لا تحيكوا ثيابكم في الليل، إن فعلتم... فانتبهوا، فإنكم تحيكون عيون الموتى}.
وتتنامى الأحداث في أجواء غامضة، وتتحرك الشخصيات مكبلة بقيود الخرافة، وتطل {ابنة حياة} التي تتسلق النخل، و{كبرت دون أن تدري سوى أن البلحة الحرام التي التقطتها ذات يوم قد أخذت أمها بلا رجعة، وأخذت أباها إلى بلاد تسمع عنها}.وتبدو الشخصيات منعزلة عن واقع المدينة، ولا تعرف عنها سوى ما يحكيه الوافدون، وأبناء القرية مثل {سيد} الذي يتذكر جنازة عبد الناصر، ودائماً ما يعود ليخترق الصمت المحيط بالمكان، ولحضوره دفء الحكايات، وارتحالات جديدة للبلاد التي زارها. ترتبط الشخصيات بعالم الحكايات، فهي { قوتهم الليلي يجترونها طوال الليل بعد أن تغيب الشمس وتهبهم إذن الحكي، في النهار لا يكون للحكايات معنى، فالخيال الستر، الصبر، الخوف، الأمل، النوم، الأحلام، الكوابيس، كل ذلك في الليل}.وحرص المؤلف على تذييل روايته بالهوامش، وأضاء من خلالها ثراء هذا العالم، ودلالة بعض المعتقدات الراسخة في وجدان أهالي القرية، وتكشف للقارئ جوانب الغموض المبثوث في سرد يمزج بين الشاعرية والتأريخ، واستبدال قسوة الواقع برحابة الخيال.عالم غامضتظل القرية عالماً غامضاً في عيون الوافدين، يطالعونها من المركبة السياحية، والتي اخترقت شباك الصيادين، وتحمل {النار} دلالة الانكشاف، و{ تشتعل كي يهتدي التائهون قرب البر، تتمايل مع النسيم الخفيف، كما يتمايل الخوف والقلق في أرواحهم}. ويتابع الراوي: {النار تشتعل كي يخشي السائحون تلك الظلال المحيطة بها.. أناس لا يرونهم مطلقا إلا على قهر المسافة، من خلال منظار مكبر أو عبر صورة ضوئية يبصرونهم عدداً متشابهاً}.وحين يساق المتهمون إلى غرفة التحقيق، يتساءل الراوي: {كان التحقيق هو الصوت الحقيقي الظاهر الذي يسمع بين الأطراف، أسئلة لا علاقة لها بالحكاية الحقيقية، لكن هناك الصوت الحقيقي صوت الحكاية، منها ما يدركه السارد، ومنها ما يضيفه النص}.ويطل الراوي كشاهد ممتد بطول الحكايات أو فصول الرواية، ليركض مع الشخصيات في حكاياتهم الأصلية، وكما يقول: {حتى نعرفهم ونعرف أنفسنا}، فقد كانت الأصوات متعددة، وفارق كبير بين ما يدون في التحقيق، وما تتلوه الحكايات. وتتعدد دلالة المفردات وعناوين الفصول، فالضي كما يراه المؤلف هو الحلم المفقود دائماً وأول الهداية، فالحكايات تقودنا إلى بؤرة {الضي} التي تزداد شيئاً فشيئاً، ثم تنطفئ فجأة بعد أن تكتمل الحكاية الحزينة، هل هو نقطة البدايات أم نقطة النهايات التي نصلها منهكين.وتقترن الحكايات بالشخصيات، ويوثقون فيها خبراتهم الحياتية، وربما تتواتر من حكاء إلى آخر، وتظل عند الجدات حكايات مشوقة للصغار، ومنبع الخيال الفارق بين عالمين {الواقعية والسحرية}، وامتزاجهما في المخيلة الباحثة عن الدهشة. يقول الناقد عادل عصمت: {يتفهم هذا النص بجدية طبيعة النص الروائي، فالحبكة الروائية وإن كانت تقوم على حادثة هشة اختراق سفينة سياحية لشباك الصيادين، غير أن الحادثة تأخذ بتقدم السرد بعداً رمزياً يشير إلى هشاشة الحياة البعيدة المنعزلة للقرية، فيمكن ليد السلطة أن تطولها في أي وقت}.ويضيف عصمت: {ويستخدم الكاتب هذه الحادثة لينطلق في تصوير الشخصيات بتقنية شديدة الحساسية، جاعلاً من التحقيق الرسمي تكئة لكي يحكي معاناة شخصياته وأمانيها وهزائمها}. وتستمد {موسم الكبك} مرجعيتها من عالم القرية، وتقتفي أثر ما أنجزه عبد الحكيم قاسم في روايته {أيام الإنسان السبعة}، وعبد الرحمن الشرقاوي في {الأرض}، ويحيى الطاهر عبد الله في {الطوق والأسورة} وغيرهم.ويؤكد أحمد الشريف في روايته الأولى صوته المتفرد، وموهبته في اكتشاف فضاء جديد ومتجاوز للسرد التقليدي، ويقارب الواقعية السحرية من دون انسياق إلى عالم غابرييل ماركيز في {مئة عام من العزلة}.ويستقي الشريف أحداث {الكبك} من تجربة وثيقة الصلة بخبراته ووعيه، وتفاعله مع خصوصية وثراء بيئته، كذلك تقف {موسم الكبك} في مواجهة روايات الذات والتغريب، وموجة النصوص الأدبية الغارقة في الحسية، والمستقاة من اليومي والعادي، ولا تلتفت إلى جماليات وثراء المكان والخبرات الإنسانية في عالم القرية والمدينة.