يقول الفيلسوف الإنكليزي الشهير ألفريد نورث وايتهيد إن "الحضارة تتقدم بزيادة عدد النتائج التي نصل إليها دون أن نفكر كثيراً من أجل أن نصل إليها".

Ad

يمكن تفهم ما يقوله وايتهيد بكل تأكيد، إذا عرفنا أن الكثير من العمليات التي نقوم بها يمكن أن تكون أسهل وأسرع عندما يكون لدينا مثال غير قابل للدحض يرشدنا للمضي قدماً في تنفيذها.

إننا في هذه العمليات على أي حال نتوقع نتائج معينة لتفاعل معين، أي نتوقع أن تحدث تصرفات محددة نتيجة لمعطيات بعينها. يُسمى هذا بالتفكير الآلي، أو "نمط التفكير القالبي".

إن "نمط التفكير القالبي" منتشر جداً في كثير من أنماط التحليل السياسي؛ لأنه ببساطة ينجح عادة في أن يكون أحد أكثر أشكال التحليل فاعلية؛ فالباحث أو المحلل موجود عادة في بيئة شديدة التعقيد، والتطورات خلالها تحصل بسرعة بشكل يُصعّب ملاحقتها أحياناً، وبالتالي فإن استخدام طريقة مختصرة للتعامل مع هذه البيئة يعد إنجازاً حقيقياً، وليس هناك أفضل من استدعاء نموذج مشابه لما يجري راهناً في بيئة التحليل، والاستدلال بهذا النموذج في توقع مسار التفاعل الجديد.

لطالما حدث مثل هذا الأمر مع قطاع كبير من المحللين الذين تصدوا لمحاولة شرح ما يجري في مصر اعتباراً من 25 يناير 2011، لقد وقع الكثيرون في فخ "نمط التفكير القالبي"، ولم تكن النتائج سليمة في معظم الأحيان.

بدأ الأمر عندما حدث التغيير في تونس، وراح كثيرون يحاولون استشراف تأثير هذا الذي جرى على الحالة المصرية، فقالوا ما سمعناه جميعاً آنذاك: "مصر ليست تونس".

لم يكن معظم هؤلاء المحللين يعتقدون أن مصر بمنأى عن رياح التحريض الثورية الآتية من الغرب، أو أن الأوضاع فيها ليست ناضجة بما يكفي ليتمرد الجمهور، أو أن النظام الذي يحكم آنذاك قوي وقادر ويقظ بما يكفي، ولكن "نمط التفكير القالبي" كان هو المهيمن على تفكير المحللين، وهو الذي جعلهم ينظرون إلى تاريخ المصريين، ليكتشفوا ندرة الثورات فيه.

استبعد قطاع كبير من المحللين أن تنتقل الموجة الثورية من تونس إلى مصر على اعتبار أن مصر مجتمع يعيش على "نمط الإنتاج الآسيوي"، الذي يعتمد بدوره على الري الفيضي، وتصل سلطة الدولة فيه إلى كل بقعة بسلاسة، فاستبعدوا أن تحدث ثورة على ضفاف النيل.

تكرر الأمر مرة أخرى حين وصل الإسلاميون إلى السلطة في البلاد من خلال انتخابات لم يطعن في نزاهتها طعناً مؤثراً، وراح "نمط التفكير القالبي" يعمل بسلاسة، فتوصل محللون عديديون إلى أن "الإسلاميين" أتوا ليحكموا ويبقوا طويلاً. وراح البعض يربط بين هذا الذي يجري في مصر، وبين ما يجري في تركيا؛ حيث وصل "الإسلاميون" بقيادة أردوغان إلى السلطة وبقوا فيها لأكثر من عشر سنوات، وحققوا نجاحاً لافتاً، ولم ينقلبوا على الديمقراطية تماماً وإن كانوا سخروها وطوعوها لتخدم نزعتهم السلطوية.

لم يكن "إسلاميو" مصر كنظرائهم في تركيا أبداً؛ بل كانوا أقل كفاءة بكثير، وأكثر شرهاً للسلطة، وأكثر نزوعاً للاستبداد والإقصاء والاستعلاء، كما كان الحس الفاشي لديهم أكثر وضوحاً بكل تأكيد.

حين تمت إطاحة مرسي عبر موجة ثورية شعبية هائلة في 30 يونيو الفائت، تسرع كثير من الباحثين والمحللين الغربيين خصوصاً، وذهبوا إلى نمط جديد من أنماط "التفكير القالبي"، فاعتبروا أن ما جرى "انقلاب عسكري".

لقد شاهد هؤلاء جنرالاً يرتدي نظارات سوداء، وتتدلى من صدر سترته الأوسمة والنياشين الملونة، يعلن انتقال السلطة، فهداهم "التفكير القالبي" مباشرة إلى أن ما يجري "انقلاب عسكري" مكتمل الأركان.

لم ينجح "التفكير القالبي" هذه المرة أيضاً؛ لأن هؤلاء لم يدركوا خصوصية المعطيات التي تقدمها الحالة المصرية؛ فلا الجيش يمثل طغمة جنرالات، أو طبقة مصالح اقتصادية، أو عنصرا أو طائفة في الدولة، ولا هو تحرك من تلقاء نفسه مدفوعاً بحب السلطة وطلباً لها، ولا الشعب المصري، وطليعته الثورية في الأساس، من الممكن أن يقبل بحكم عسكري على نحو يجهض أحلامه في الديمقراطية.

بمجرد أن أُطيح مرسي، وبدأت الإجراءات الأمنية ضد تنطيم "الإخوان" وحلفائه في اليمين الديني المتشدد، راح الكثيرون يتوقعون لمصر "السيناريو السوري".

خرج أحد القياديين من أنصار مرسي على شبكة إخبارية مساندة لـ"الإخوان" في أعقاب فض تجمعي "رابعة العدوية" و"النهضة"، منتصف أغسطس الماضي، ليقول بوضوح: "سنفجر مصر، لقد صنع السيسي منا (طالبان) جديدة، وصنع (القاعدة) من جديد، سنستخدم التفجيرات... لقد كتب السيسي شهادة وفاة أعضاء (جبهة الإنقاذ)، والعلمانيين، وغير المسلمين، وكل من عارض مرسي... هنخرب مصر".

إنه تفكير قالبي جديد يحرك هذا الرجل، ويجعله يقيس الأوضاع بما جرى في سورية. ليس هو فقط من تورط في هذا القياس؛ بل ألح عليه قادة كثيرون في تنظيم "الإخوان"، حين استخدموا عبارة "حرب أهلية"، وقد استخدمها معهم مثلاً النائب الأميركي الشهير جون ماكين حين زار مصر لبحث أزمتها، ومئات المحللين الموثوق بهم في المنطقة وخارجها، بل إن وزراء خارجية مرموقين في العالم الغربي استخدموا تلك العبارة في بيانات رسمية.

اعتبر هؤلاء، إذا استبعدنا فكرة أن بعضهم كان يمارس "تحليلاً بالتمني"، أن ما جرى في مصر يطابق "السيناريو السوري" تماماً، وحاولوا مد الخطوط على استقامتها، متناسين الاختلاف في طبيعة الجيشين المصري والسوري من جهة، ومتجاهلين خصوصية ما جرى في مصر في 30 يونيو باعتباره موجة شعبية ثورية لها سند كبير في الشارع من جهة أخرى.

سقط "السيناريو السوري" إذن، ولم يعد هناك سوى "السيناريو الجزائري"، أي عشر سنوات من الدماء والتفجيرات والعنف، ودولة مرهقة مأخوذة بالخوف ومرهونة للابتزاز.

حينما حدثت محاولة اغتيال وزير الداخلية المصري الفاشلة قبل ثلاثة أيام، راح البعض يؤكد أن "السيناريو الجزائري" بدأ في مصر، وتحدث آخرون عن عشرية من الدماء كتلك التي شهدتها الجزائر، وراح محللون ووسائل إعلام بارزة ومراكز بحث مهمة وسياسيون معتبرون يتساءلون عن المسؤول عن وصول الأوضاع في مصر إلى حالة "سيناريو الجزائر"، وطبيعة التهديدات المتوقعة في إطار هذا السيناريو، وتأثير المخاطر المنتظرة على الاقتصاد والمجتمع والعلاقات الدولية للدولة المصرية، لكن هؤلاء تعاملوا مع كل هذه الأسئلة من منطلق أن مصر دخلت إلى "سيناريو الجزائر"، ولم يحاول كثيرون منهم السؤال أولاً عما إذا كانت مصر ستدخل فعلاً إلى هذا السيناريو أم لا.

لقد وقعت تفجيرات في مصر بالفعل، وجرت محاولات اغتيال، وأعلن قياديون "إسلاميون" عزمهم "تفجير مصر"، لكن تلك الوقائع يجب ألا تقود بالضرورة إلى "سيناريو الجزائر" وإلا لكانت أخذتنا مثلاً إلى "سيناريو سورية".

لن ينجح "نمط التفكير القالبي" هذه المرة أيضاً في استشراف الأوضاع المنتظرة في مصر؛ لأن ما جرى في 30 يونيو لم يكن انقلاباً عسكرياً، ولأن طبيعة الجيش المصري وعلاقته بشعبه مختلفة عن غيره من جيوش المنطقة، ولأن الجيش هو أكثر مؤسسة تحظى بالثقة والاعتبار في مصر الآن وفق كل استطلاعات الرأي الموثوقة، ولأن المجموع العام في مصر يصدق "خريطة طريق المستقبل"، ويستطيع إرغام كل الأطراف على تطبيقها، ولأن المصريين بطبيعتهم النفسية، وسويتهم الثقافية والاجتماعية، ولأوضاعهم الجغرافية والتاريخية، لا يمكن أن يتعايشوا مع السيناريوهين الجزائري أو السوري.

إن "نمط التفكير القالبي" ينجح في أحيان عديدة، لكنه لم ينجح في الحالة المصرية حتى الآن، ولن ينجح على الأرجح مستقبلاً، ولا يعود هذا لفساد هذا النمط من التفكير ذاته، بقدر ما يعود إلى عدم إدراك طبيعة ما جرى في مصر إزاء حكم الفاشية الدينية الغاشم وقليل الكفاءة الذي مارسه "الإخوان المسلمون"، كما يعود إلى عدم إدراك أن المصريين الآن أكثر توحداً والتفافاً حول مؤسسات دولتهم، وأكثر إخلاصاً للوصول إلى "سيناريو مصري" يعكس فرادتهم المعتادة، ويعيدهم إلى مركز الإلهام وكتابة التاريخ من جديد.

* كاتب مصري