علي الشدوي في «شرقيون في جنوب الجزيرة» حملة لغويّة تطارد مفرداتها مستعمري الداخل
قد يكون التضييق على حريّة الصحافة السياسيّة وتحريم كتابة التاريخ بقلم لم يدفع ثمنه المنتصر أحد الأسباب التي ساهمت في توسيع ميدان الرواية الشرقيّة لتقول الاجتماعي والسياسي والتاريخي والديني على طريقتها وهي وإن تقنّعت بالرمزيّة وتحجّبت بحرير الفنّ فإنّها شكل من أشكال التاريخ وضرب ومن ضروب النضال. علي الشدوي في {شرقيون في جنوب الجزيرة}، يكتب بقلم حر وثيقة تاريخية.
في جديده الروائي {شرقيون في جنوب الجزيرة} يمد علي الشدوي يده إلى الشجرة المحرّمة ويردّها إلى جسده بريئة من الإثم لأنّ ما حرّمه طغاة الأرض ما هو إلاّ حلال السماء المباركة أبدًا حريّة الإنسان وكرامته وحقّه في أن يمضي من كينونته إلى صيرورته، ناثرًا خطوه على الطريق الذي يشاء، مؤمنًا بلا إكراه، عارفًا بلا إرهاب المعرفة، قادرًا على قول {لائه}أو {نَعَمِهِ} بعيدًا من الوصاية...حسن، مدير المباحث، يكنّى بأبي ظاهر، يحمل شهادة الماجستير في علم النفس. هو شرقي وافد إلى الجنوب، شأن غيره من الشرقيين، بداعي ضبط الأمن والأخلاق والدين. فالجنوبيون بالنسبة إليه فائض بشري، أو نفايات بشرية. هم في حاجة إلى من يملأهم حضارة وأخلاقًا ودينًا...: {نظر إلى البشر على أنّهم كائنات جنسية، وأنّ الكتّاب حيوانات. وما يكتبونه يعبّر عن رغباتهم الجنسيّة المكبوتة، لذلك يدفعون المجتمع إلى أن يتحلّل أخلاقيًّا}. يتمادى أبو ظاهر في إحصاء أنفاس الناس ولم يستطع العلم أن يفهمه: {أن لا شيء يسعد المجتمع سوى العقل النقديّ. لا الديني يسعده ولا السياسي كذلك}. وتشدّ أزر أبي ظاهر هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. وما المعروف سوى الطاعة للظلم بكلّ إبداعاته وما المنكر سوى الحريّة. ولا يخفى الدينيّ كمحرِّك خفيّ ظاهر على امتداد الرواية، فأبو ظاهر على سبيل المثال: {لم يكن يصدّق أنّ هناك كويتيًّا شيعيًّا، فالمفترض أن يكونوا كلّهم من السنّة}. وباختصار شديد، إنّ الإنسان الجنوبيّ المثالي يجب أن يكون خروفًا: {لا يملك نفسه ولا حياته}. وكثيرًا ما يتدخّل الشدوي معلّقًا ومحلِّلاً بعين الناقد الذي يعرف أن {الإنسان يخفق ويهلك. يذبح ويضحّى به لتنتصر الفكرة وتبقى خالدة}. وتعكس تدخلات الروائي قدرته الثقافية ومعرفته العميقة بالمجتمع الذي يناضل لأجله ويستعين بمخزون واسع لأعلام في الفكر والفلسفة وعلم النفس. فالشدوي لا يكتفي بأن يروي، يريد أن يقول شيئًا آخر غير الرواية، غير الفنّ، غير الأسلوب... يريد أن يرافع عن شعب عانى العنصريّة من أبناء أمّته التي من المفترض ألاّ تتحوّل إلى أمم صغيرة. أو أن تصير كلّ قبيلة فيها أمّة وتدّعي أنّها خير أمّة أخرجت للناس. مشكلة علي الشدوي العربي، المسلم... هي تحديدًا مع عرب ومع مسلمين. إنّه بروايته يفتح ملفّ الشرق الذي يقطر دمًا، وملفّ الإخوة الباحثين كلّ يوم عن يوسف جديد وبئر جديدة... وحكاية الجنوب مع الشرق قديمة تعود إلى: {حدود عام 1805}، ولو أن اجتياح الشرقيين للجنوب انتهى عام 1817 فإن الجنوبيين: {انغمس في أعماقهم وتد التابع للشرقيين، لا بمعنى أنهم مضطهدون فحسب، إنّما أيضًا يفتقرون إلى الاستقلال، ويخضعون لهيمنة جماعة أخرى}.
الجنوبي أحمد بن ليلىبموازاة شخصيتَي أبي ظاهر، وأبي سليمان المحترف إخبار الراوي أمجاد الشرقيين في الجنوب تنمو شخصية الجنوبي أحمد بن ليلى. أحمد بن ليلى جنوبي، درس اللغة العربية وآدابها وامتهن التدريس. أحبّ ليلى وهي أخت تلميذ من تلامذته، ويقدّم لها الروائي استقالتها من الحياة في نهاية الرواية. تورّط أحمد بظرف تركه أحد روّاد المقهى على الطاولة. أخذه ومضى من الحياة إلى الموت وهو على قيد الحياة. أوصله الظرف إلى المقبرة. الظرف الذي لم يجرؤ على فتحه، وحمله من مكان إلى مكان كمن يحمل مشنقته على كتفه. صار رفيق الموتى. هم أفضل منه لأنهم لا يحلمون أحلامًا مزعجة، مرعبة، تجرّح الخيال وتحترف خصاء الفرح ووأد الطمأنينة. المقبرة التي لجأ إليها أحمد هي الجنوب بحدّ ذاته، حيث يتناسل الأموات، وحيث الحياة لا تتّسع إلاّ للظالم، للمستعمر الذي يخطئ هدف وجوده. في المقبرة كان مكان حرّ لخيال أحمد، فعاش الحبّ بين جدران الخيال. عرّى ليلى. أبحر في جسدها. وحدهم الأموات لا يقدمون التقارير لأبي ظاهر. وحدها الأكفان بريئة ممّا ترتكبه العمائم البرتقالية. وحين يصير القارئ أحمد بن ليلى ولا يستطيع ألاّ يصيره – يشعر أنّ علي الشدوي هو أيضًا كتب روايته تحت سقف مقبرة آمنة. ربّما لأسباب تتعلّق بالخوف أو ما يعادله، أو لأخرى تتعلّق بالوفاء لأموات الجنوب الذين نجّاهم الموت من أبي ظاهر الكثير، المالئ دنيا الجنوب والمعطّل الحياة في صدور أهلها.قاد الحلم أحمد ليكون ملكًا: {من حقّي أن أكون ملكًا. وليس من حقّ أحد ما أن يولد ملكًا. لمجرّد أنّ أباه اغتصب شعبًا ودعا نفسه ملكًا}. غير أنّ رفيق الأموات لم يزره التاج إلاّ في الحلم فرمى به عن شرفة الحلم أيضًا. وبين الملك والمجنون، آثر الجنون وتاجه الذي يقيه شرّ أبي ظاهر. الجنون ملجأ الأحياء في الجنوب. وخطيئتهم التي لا يحاسب عليها القانون. ويفتح الروائي الظرف بعدما تحوّل أحمد بن ليلى شخصيّة تملأ الرواية من ألفها إلى يائها، فإذا به فارغ من التهمة وليس فيه سوى وثائق رسمية وصور شمسيّة تخصّ طالبًا جنوبيًا. لكن المراقبة الأمنيّة تصل إلى النوايا وما من عين في الجنوب إلاّ تطارد عينًا: {رأته المرأة السوداء، التي رأت الشاب، الذي رأى العامل، الذي رأى المرأة، التي رأت الخادمة، التي رأت يده مرفوعة}. وهكذا، فإنّ كلّ الأسماء الموصولة موظفّة عند أبي ظاهر.لم يستطع الجنون أن ينال من أحمد بن ليلى إنّما كان له خشبة خلاص. كان جنونًا جميلاً لأنّه طرد الخوف من أعماقه. وباتت الضحكة شكلاً من أشكال التحدّي والمقاومة. وأمست كلّ خطوة جرسًا يعلن ثورة آتية من رحم الأغنية التي لا يذهب بها سيف مجرم، والجنوبيون يعرفون تمامًا أنّ الشرقيين قتلوا المغنّي كثيرًا لكنهم لم يتمكّنوا من إغماد سيفهم في ظهر الأغنية: {استحضر هؤلاء روح جدّهم الأوّل، وروح جبال الجنوب المغلقة على أسرارها... توغّلوا أعمق وأعمق في غابة لاوعيهم مشحونين بالعواطف التي اعترت أسلافهم الأوّلين}...في نهاية الرواية بداية جنوبية أو استرجاع لزمن البداية.غنى عجزة الجنوب: {كأبطال الملاحم القديمة}، وبالنّغم وسلطانه خرج أهل الجنوب من سرداب الخوف والموت وأبحروا في مراكب الأناشيد إلى جنوب جديد. وكانت ثورة جعلها الشدوي منزوعة السلاح، مكتفية بحنجرة تلبّي خاطر الروح.{شرقيون في جنوب الجزيرة} رواية تحريريّة، أعدّ علي الشدوي من خلالها حملة لغويّة هادفة وصلت إلى جنوب الجزيرة وطاردت مفرداتها مستعمِري الداخل، وشكّلت بحدّ ذاتها وثيقة تاريخية لمن تهمّه المعرفة التي لا تحمل أوراقها توقيع الملوك.