حديثي اليوم عن فيلم مصري محظور عرضه في مصر بأمر الرقابة على المصنفات الفنية التي اتهمته بالإساءة إلى الأديان، والإضرار باستقرار الوطن، وعاقبت مخرجه الشاب هشام عيسوي لأنه تجرأ وعرض الفيلم، من دون تصريح منها، في المسابقة الرسمية لـ {مهرجان دبي السينمائي الدولي} في دورته السابعة (2010) ورأت في ما حدث {جريمة}!

Ad

من ناحيته لم يأبه المخرج الذي درس في أميركا وعمل فيها، بالإجراءات البيروقراطية للرقابة، ولم يتوقف كثيراً عند تعنتها وتربصها، وحساسيتها المفرطة، فشارك بالفيلم في الدورة التاسعة لـ «مهرجان «آمال السينمائي العربي- الأوروبي بإسبانيا} (2011)، ونال جائزة أفضل فيلم مناصفة مع الفيلم العراقي {ابن بابل}، وحصدت بطلته الشابة مريهان جائزة أفضل ممثلة، وتكررت المشاركة في الدورة الثانية لـ {مهرجان مالمو للسينما العربية} (2012) ونال جائزة أفضل فيلم روائي طويل.

عنوان الفيلم الذي انفردت بعرضه قناة «أرتيه» arte الفرنسية- الألمانية، هو {الخروج من القاهرة}، وقد نجح في تقديم صورة واقعية لمصر التي أغلقت أبواب الأمل أمام أبنائها، فوجدوا أنفسهم أمام خيارين: بيع أنفسهم في حال تشبثوا بالبقاء على أرضها، أو {الخروج} منها، حتى لو أدى بهم الأمر إلى التضحية بالنفس في قارب تتقاذفه الأمواج المتلاطمة في بحر عات لا يرحم!

قبل نزول التترات، وفي اللقطة الأولى من الفيلم، تبدو السماء زرقاء صافية ورحبة، وصوت النورس يجلجل في المكان، وتكاد لا تفرّق بين السماء وشاطئ البحر الممتد، وصوت الأمواج المتلاطمة التي تُنذر بخطر مخيم على الأجواء، وفي لقطة تالية نتابع فتاة لا نتبين ملامحها تهرول نحو الأفق، مكبلة ومقيدة بأعمدة الإنارة التي تُحاصرها على جانبي الجسر الذي تهرول فوقه.

هذه البداية التي تنم عن حس تشكيلي، كما تكشف عن عين خبيرة وأسلوبية فنية للمخرج هشام عيسوي الذي كتب الفكرة والفيلم مع الكسندر كينياس، وصاغ السيناريو والحوار مع أمل عفيفي، تتواصل في الفيلم الذي يُبهرك بقدرته على أن يملك مشاعرك، ويحافظ على تركيزك، من خلال نقلات (مونتاج نهاد سامي) تقودك إلى الحدث مباشرة، وتدفعك إلى عيش الهمّ والتوحد مع أزمة الأبطال جميعاً، على رأسهم طارق (محمد رمضان) وأمل (مريهان)، اللذان يعيشان قصة حب مجهضة، ليس بسبب الظروف الاقتصادية فحسب، إنما، وهذا هو المهم في التجربة، بسبب اختلاف الديانة؛ فالأول مسلم بينما الثانية مسيحية، وهو ما يواجه بمعارضة شديدة من العائلتين.

 لن تشعر مطلقاً وأنت تتابع أحداث فيلم {الخروج من القاهرة} أنك أمام مخرج {متفرنج} يقدم الواقع في مصر بروح {المستشرق} أو بمنظور {السائح} الذي يتعامل مع ما يراه بوصفه {فولكلوراً}، لكنك حيال مخرج عاشق لمصر، على طريقة صلاح جاهين في قصيدته الشهيرة {على اسم مصر}: بأحبها بعنف وبرقة وعلى استحياء... وأكرهها وألعن أبوها بعشق زي الداء}؛ فاختياراته لأماكن التصوير الطازجة وزوايا الكاميرا (تصوير باتريك ثلاندر) يعكسان مقدرة فائقة وموهبة كبيرة، من جهته، مثلما يؤكدان عشقه الواضح للقاهرة ورفضه الاستسلام لغواية تقديم عشوائيتها بشكل قبيح؛ إذ تفنن في رصد {السحر الخفي} للقاهرة، بتناقضاتها وغرائبها، واحتفظ بالتفاصيل التي تخدم الرؤية، وأكد العلاقة الوثيقة بين البطل والبحر الذي يمثل بالنسبة إليه طوق نجاة، ومن ثم لا يرى فارقاً بين الغرق في طوفان واقع يومي مترد، والغرق في البحر أثناء هجرة غير شرعية!

طوال الأحداث يبدو المخرج شديد الاقتصاد في استخدام الحوار، شديد البراعة في توظيف الصورة لتوصيل الرسائل التي أرادها؛ فالفقر، والهوة الشاسعة بين الطبقات، أصل البلاء في المجتمع المصري، ثم يأتي التطرف الديني، وغياب روح التسامح.

وبنفس الكفاءة حالف المخرج التوفيق في إسناد مسؤولية وضع الموسيقى التصويرية لتامر كروان الذي أبدع كما لم يفعل سابقاً، إذ استوعب التجربة، وتجاوبت موسيقاه مع جرعة المشاعر والعواطف، كذلك نجح المخرج في توظيف الأغاني التي أدت دورها الدرامي المُكمل للصورة والحوار، لكن يُحسب له احترامه للمشاهد، وجرأته في مناهضة التطرف الديني، وتوجيه أصابع الاتهام إلى الكنيسة التي قدمها في لقطة وهي محاطة بسياج كبير، كأنها سجينة أفكار قديمة وجب عليها أن تُبادر إلى التخلص منها.

لم تخسر {الرقابة} عندما حظرت عرض فيلم {الخروج من القاهرة}، كونها اعتادت مصادرة الإبداع، وملاحقة المبدعين، والتنكيل بأصحاب السينما التي تسبح ضد التيار، لكننا خسرنا تجربة جريئة نجحت في إثارة الجدل، وألقت حجراً في المياه الراكدة، مثلما أماطت اللثام عن {المسكوت عنه} في العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في مصر، وأكدت أن هوس التطرف الديني أصاب الجانبين على حد سواء!