مجرد وجود اسم الرسام الهولندي يوهانيس فيرمير (1632 – 1675) في عنوان معرض حتى يخف إليه محبو الفن، وأنا منهم بالتأكيد. فكيف إذا كان المعرض بعنوان «فيرمير والموسيقى»، وفي متحف «الغاليري الوطني»؟

Ad

كنت أنتظر افتتاح المعرض منذ أكثر من شهرين، ولكن المفاجئ يوم افتتاحه أني وجدته لم يحفل إلا بخمس لوحات لفيرمير، من بين 25 لوحة لرسامين هولنديين من المرحلة ذاتها، في منتصف القرن السابع عشر. في الواقع أن فيرمير، المقل جداً في إنتاجه الفني، لم ينشغل بالآلات الموسيقية وعازفيها إلا في هذه اللوحات. فالمعرض لم يتجاوز مصداقيته إلا في العنوان، الذي كان يجب أن يتسع للفن الهولندي والموسيقى، في هذه المرحلة. ولكن عنواناً كهذا كان سيحجب نصف الجمهور عن زيارته. ولذا اعتمد الغاليري الوطني عنواناً لا يخلو من خديعة.

المعرض يحفل بلوحات فنانين هولنديين كثُر، والعلاقة مع الموسيقى فيه لا تتجاوز حضور الآلات الموسيقية، والعزف عليها من قبل فنان منفرد، أو فرقة صغيرة، داخل اللوحة. لأن العلاقة بين الرسم والموسيقى قد تتجاوز هذا إلى التقنية والإيحاء. فالمراحل الكلاسيكية، الرومانتيكية والحديثة، بما تحفل به من تيارات ومدارس، كانت تحفل أيضاً بفاعلية تأثير متبادل بين اللوحة كتشكيل لوني وبين العمل الموسيقي كنسيج لحني. نتبين هذا بوضوح في التوازن والانسجام الكلاسيكي، كما نتبينه في عنف اللحن والفرشاة الرومانتيكي، وكذلك تلاشي الخطوط الفاصلة بين الألوان والألحان الانطباعية...الخ.

في المعرض إذن لوحة ترصد مشهداً لآلة أو لعزف. ولعل آلة «فيرجينيا»، وهي من عائلة آلة «الهاربسيكورت»، كان لها السيادة، إلى جانب آلة «فيولا دا غامبا»، التي تصغر آلة التشلو بقليل. ولقد أُحضرت في العرض الآلتان القديمتان معاً. كما أُعد ركن للعزف الحي على هاتين الآلتين. فيرمير أحد أروع الرسامين الذين ظُلموا في حياتهم. ولم يتألق نجمه إلا في القرن التاسع عشر. عمل كوالده صاحباً لنُزُل، وفي تجارة اللوحات الفنية، ولكن في مرحلة كساد اقتصادي. ولانعدام شهرته لم تكن لوحاته مصدر رزقه.

مرحلة تدريبه الفني تكاد تكون مجهولة، على أنه في عام 1653 برز كرسام بالغ المهارة. وهي ذاتها مرحلة زواجه التي أنجب عبر سنواتها 15 طفلاً، بقي منهم 11، حتى وفاته المبكرة وهو في عمر الثالثة والأربعين. خلف ديوناً أثقلت حياة العائلة، فاضطرت أرملته إلى تسديد ديون الخباز بلوحات ثلاث.

سبق أن رأيت لوحةَ «فتاة بقرط اللؤلؤ» الشهيرة لفيرمير في متحف Mauritshuit في لاهاي، صغيرة شأن كلّ لوحاته. تنطوي على فتنة شديدة الجاذبية، شديدة السرية. توقفت أتأملُ التفاتةَ الوجه الطفولي  لخادمته، وذلك القرط المضيء كمصباح، وقد احتل طرَفَ العتمة خلف الرقبة، وكأنه أراد بذلك توفيرَ توازنٍ في الشكل مع ابتسامةِ الشفتين والعينين. التفاتةٌ فجْريةٌ عزّ نظيرُها في الفن، أثارت حماس الروائية الإنكليزية تريسي تشيفالير لكتابة رواية بعنوان اللوحة ذاته (1999). أخرجها فيلماً بالغ العذوبة بيتر وَيبر (2003).

فيرمير يحتوي وجهَ خادمته بسحر الفرشاة. فنون الرواية والسينما والمسرح تحاول احتواء الوجه واللحاق بفرشاة فيرمير فلا تفلح. هذا الفنان الهولندي مُقلٌّ بصورة لافتة للنظر، فلم تصل منه غير ثلاثين لوحة. معظمها صغير الحجم، يقتصر على مشهد داخل البيت، عادةً ما يكون في ركنٍ، وعلى مقربة من نافذةٍ، من أجل الضوء، ولنسوة على قدرٍ من تواضع الحال.

لوحات فيرمير الموسيقية الخمس في هذا المعرض لا تخرج عن هذا المشهد الداخلي، وهذا القرب من النافذة، وهذا الضوء الذي يتفشى بصمت، فيمسح الجدار ووجوه النساء والأشياء بلون طباشيري حيث للظلال رقة يستخدم فيها اللون الرمادي أو البني، في حين يتألق الأحمر والأزرق والأصفر في الملابس والبسط.

اللوحة تكشف عن مسعى فرشاته البطيء والدؤوب، كما تكشف السر وراء قلة إنتاجه.