وجهة نظر: مازال في الأفق متسع للإصلاح!
الرؤية الاستراتيجية لاقتصاد ما، هي صورة ذهنية لما ينبغي أن يكون عليه هذا الاقتصاد في المستقبل. وقد تبنت الدولة في وثيقة الاطار العام للتنمية في منتصف عام 2009، الرغبة التي عبر عنها صاحب السمو أمير البلاد، بتحويل الكويت الى مركز مالي وتجاري، منطلقا للرؤية الاستراتيجية. الا أن الرؤية هذه ظلت دون تحديد آليات ومسارات تمكن من الانتقال أو التحرك من الوضع الراهن إلى عالم الرؤية. ويتطلب تحديد مثل هذه الآليات والمسارات مفكرين استراتيجيين وجهودا ابتكارية تفوق في حجمها قدرة من اجتهدوا في اعداد خطة التنمية الراهنة التي لم تخرج عن الاطار التقليدي للخطط التي سبقت تبني هذه الرؤية.ولا شك ان أخطر ما يواجه أي اقتصاد، هو غياب الآليات والمسارات الاستراتيجية، فهذه معضلة تعادل، ان لم تتعد، في أهميتها مشكلة عدم توفر بنية تحتية، بل إن الاستثمار في البنية التحتية ذاته لا يمكن أن يكون كفؤا ومناسبا في ظل غياب هذه الآليات والمسارات. وفي وضع كهذا تكثر الاجتهادات وتتزاحم الفتاوى وتتشعب التقاطعات، فيقف الاقتصاد في مفترق طرق عاجزا عن التقدم نحو رؤيته الاستراتيجية، بل وعن النمو.
خطط التنمية تصبح هي الأخرى ضحية ذلك التجاذب بين الاجتهادات، وقد تتبنى، بل لا تملك، والحال هذه، الا أن تتبنى، أهدافا متشعبة متعارضة يعوزها التناغم الضروري، كما لا تملك الا أن تكرر أنماطا من البرامج والمشروعات التي تفتقر هي الأخرى الى الانسجام والتكامل. كما لا يمكن لأي حكومة في وضع كهذا الا أن يقع وزراؤها ضحية هذه التناقضات، فتبدو مواقفهم وقراراتهم اليوم نقيض مواقفهم وقراراتهم بالأمس، وقد يسن أحدهم اليوم قانونا وينقضه بتعديل له في الغد، كما قد تسمع من أحدهم اليوم تصريحا يبتعد 180 درجة عن تصريحه بالأمس. وكل ذلك لا يعبر عن انفصام في الشخصية بقدر ما يعكس حالة غياب آليات الرؤية.أطنان القوانينوعندما تتناقض المواقف، وتتأرجح القوانين، وتتقلب القرارات، وتتراقص الاجراءات، يصبح الالتزام بهذه المواقف والقوانين والقرارات والاجراءات أمرا مزاجيا وانتقائيا، وبتكرار تلك المزاجية والانتقائية تفقد القوانين احترامها، والقرارات أهميتها، كما تفقد مراكز القرار في الدولة هيبتها، ومن ثم يضعف التزام الناس بالقانون، فتصبح لدينا أطنان هائلة من القوانين غير المفعلة، ومن القرارات المنسية، التي لا ينفض الغبار عن أحدها الا ارضاء لفلان أو عقابا لعلان. بيئة كهذه لا يمكن أن تكون جاذبة للاستثمار بقدر ما تكون طاردة له، فمسطرة معايير المفاضلة في توزيع المنافع وتوقيع الجزاءات ليست مستقيمة بل متعرجة، والقوانين والتشريعات غير نافذة، والجرعة السياسية في الشأن الاقتصادي تفوق في حجمها وفعلها الجرعة الاقتصادية والفنية والمهنية، وداء البيروقراطية يعرقل ويعطل كل قدرات وخطط ومشروعات الأفراد والمؤسسات.خطر ملموسأخطر ما يمكن أن تفرزه هذه البيئة هو وأد الابداع في عقول الشباب، وقتل الحافز في نفوسهم نحو التعلم وصقل المهارات، وعدم التزامهم بقوانين لا يؤمنون بجديتها. وهذا خطر قد خرج من عتمة «الظن» الى ضوء النهار، خطر بتنا نلمسه في الشوارع والأسواق وفي قاعات الدرس.حالة كهذه ما زال في الأفق متسع لمعالجتها قبل أن تستفحل وتصبح عصية على العلاج. حالة كهذه تقتضي وقفة مراجعة جادة لواقع مرير. وقفة للتوافق على آليات تدفع قاطرة الاقتصاد الوطني نحو مسار واضح، آليات توقف هذا الترهل والفساد المستشري في أجهزة الدولة، آليات تتطلب التخلي عن تقليد المحاصصة في توزيع المكاسب والوظائف وتعتمد مبدأ تكافؤ الفرص بين المواطنين، آليات تتخذ من الكفاءة معيارا أساسيا لا تزاحمه معايير أخرى في الوصول الى المراكز القيادية، وتلزم الكبير قبل الصغير باحترام القانون، أما دون ذلك «فسلملي» على التنمية. * أستاذ الاقتصاد – جامعة الكويت