مقاطع من سيرة شعرية (9)

نشر في 26-03-2013
آخر تحديث 26-03-2013 | 00:01
 د. نجمة إدريس كانت الأعوام العشرة الممتدة من 1987م إلى 1997م أعوام كمون شعري مريب، وأعوام انسحاب قسري نحو وظيفة حياتية أكثر واقعية وصلابة. لم ولن أعتقد في يوم ما أن الشعر مناقض لحياتنا الواقعية أو متنافر مع إيقاعها واعتياديتها، ولكنني أرى أن للشعر مساحاتٍ ورحاباً نفسية وفكرية، وأن هذه المساحات والرحاب قد تزحمها مطالب الحياة الواقعية ولهاثها، فتتقلص أطياف الشعر حينها وتنحسر كما تنحسر أمواج البحر ليواجَه الشاعر بوحشة الصخور وعري الأصداف.

 كنتُ أنا أنهض نحو تأسيس أسرتي ومزاولة وظيفتي في التدريس الجامعي، أشعر بلا شك بتلك الوحشة والعري، وأشتاق مدّ البحر وعودة النوارس، ولكن الرحاب كانت تضيق والحياة تزداد جديّة وجهامة، وسويعات الوقت تنسرب كما ينسرب الماء من فروج الأصابع. لستُ من أولئك الذين يعتقدون بوجود ما يُسمّى "لحظات الإلهام" الطائرة - التي كما يدّعون – تأتي بغتة لتنقر قرائحهم كما تنقر الطيور فاكهة الحقل! ويقيني أن الكتابة الإبداعية تحتاج إلى تفرّغ وأجواء مطمئنة وسكينة وانقطاع. بل أكاد أجزم بأن العمل الإبداعي كائن أناني حدّ الإسراف، يستحوذ على صانعه ويأبى المشاركة في الرحم الذي يتخلق فيه، وإلا فإنه سيخرج ضعيفاً هشاً لا يملك أسباب الحياة.

 ناهيك عن أن التراكم المعرفي الهائل الذي هو من سمات العصر، بات يحتّم على المبدع أن يبذل جهداً منظماً وتفرغاً مقنناً ينقطع خلاله إلى مفردات صناعته كما ينقطع أي باحث أكاديمي إلى موضوعه، أو عالِم إلى معمله، ينقّب ويقرأ ويجمع الحقائق المعرفية والإشارات ذات الصلة من مظانها، سابراً غور التجارب الناضجة، مستهدياً بإشراقاتها ومتمثلاً لجوهرها الخالد. إن الإبداع في هذا العصر الذي يقف فيه الأدب والفكر فوق قمم رفيعة من تراكمات إبداعية هي خلاصة فكر الإنسانية وتراثها الهائل عبر العصور، لا شك يُشعر من يتجرأ على الكتابة أنه لا بد أن ينحني أمام شروطها ونواميسها المقدسة، التي يأتي على رأسها: الجهد المقنن وفسحة الوقت والصبر الجميل. إن خرافة "الشاعر المطبوع" وأسطورة "شياطين الإلهام" وتقاليد الجلوس المسترخي أمام نافذة الفجر أو غروب الشمس، كلها غدتْ بضاعة بدائية ورثّة لا تصمد أمام ضرورة الإحاطة والمواكبة المعرفية التي تتطلب تفرغاً وانقطاعاً وجهداً. إن أعظم الروائع الأدبية لا أتصور إلا أنها ثمرة لمعرفة عقلية وشعورية، ونتاج تنظيم مُحكم، وعمل متواصل في بيئة مكانية مستقرة ومحيط ملائم.

 على ضوء هذا اليقين لنا أن نتصور مدى الانحسار الذي يمكن أن يصيب العمل الإبداعي نتيجة انغماس صانعه في إيقاع حياة يومية تلتهم أيامه وشرارات بصيرته. أما إذا قرّبنا المجهر أكثر نحو المرأة المبدعة فإن الأمر يصبح أكثر فداحة. لستُ بحاجة في هذا المقام أن أطنب في الحديث حول هذه الإشكالية التي طالما تناولتها بحوث الأدب النسوي منذ فرجينيا وولف وقلقها العارم في A Room Of One’s Own  حتى وقتنا الحاضر. وإنما أردتُ فقط أن أؤكد، ومن واقع التجربة، أن مطالب الحياة الأسرية وكدح المرأة في سبيل توفير أقصى حد من الإعالة والعناية والمتابعة، تظل حجر الرحى الذي يطحن قواها العقلية والنفسية ويجفف الكثير من ينابيع عطائها. ولعل هذه الإشكالية تزداد تأصلاً إذا ما ربطناها بفكر مجتمع يفصل وبشكل جائر بين الإبداع وشروط الأنوثة الحقة. ويأتي على رأس شروط الأنوثة: الإنجاب والخدمة والتضحية والخضوع. وكلها شروط لا علاقة لها بآلية الإبداع إن لم تكن مناقضة لها. بل قد يغدو الإبداع في هذه الحالة – بوصفه طاقة عقلية غير مرغوبة في المرأة – صفة سالبة إن لم تكن مستهجنة.

 هذا الانشطار الفادح في فكر المجتمع وثقافته، بين مفهوم الإبداع كقيمة إنسانية عليا، وبين ربطه بالدونية والكراهة وعدم استحقاق المرأة المبدعة للحياة السوية، يظل بلا شك أصلاً للكثير من المعاناة والإحباط والمخاوف الغامضة. وقد يقود المرأة في النهاية إلى التخلي عن الكثير من ألقِها وعنفوانها، والرضا بأدنى شروط الحياة.

back to top