أكبر خطأ نرتكبه عندما نريد النسيان هو... محاولة أن ننسى!

Ad

محاولاتنا الجادة والحثيثة في طلب النسيان هي ذاتها العائق الذي يحرمنا من نيل تلك النعمة،

النسيان هو الشيء الوحيد الذي لا يمكن الحصول عليه بتكرار المحاولة، ولا بالجدّ والاجتهاد في القبض عليه، بل على العكس من ذلك تماماً، الكف عن تلك المحاولات قد يمكننا أكثر من نيل بغيتنا،

اللهاث وراء قافلة النسيان عادة لا يخلّف إلا غيمة من الظمأ، ويباس اللهاة وجفافها، وكثيرا من القروح والجروح في باطن أقدامنا، علاوة على تلك التي في قلوبنا!

يتحول النسيان عند مطاردته إلى غزال مُروَّع،

يجرّنا خلفه في البيداء تحت سماء تصب حمم شمسها فوق رؤوسنا، ورمضاء يتفنّن جمرها بكيّ أمانينا،

ونحن لم نعتد وحشة القفار، بينما اعتاد هو عليها، وخَبُر خارطتها جيدا، وحفظ تفاصيلها عن ظهر قلب،

كلما أُجهد في المطاردة، فاح منه المسك أكثر!

نركض خلفه ليس معنا من الزاد إلا حاجتنا الملحّة للاستئناس به، ويهرب منا مسلحا بعزيمة ألا يقع في أسرنا،

تجربة النسيان مع بني البشر غير مشجعة له،

لا تختزن ذاكرة النسيان موقفاً نبيلاً لنا معه، ولا لحظة وفاء دامت له معنا،

 نتوسل إليه ليقبل ضيافتنا.

نرسل له قلوبنا دامية، وخواطرنا مكسورة، وشفاهنا يابسة ليحن علينا ويشفق،

نجمع صور من نريد نسيانهم في قطعة قماشٍ باليةٍ، ونقوم ببعض التعديلات على هذه الصور لتبدو بشعة وقبيحة وشرسة، استدراراً لعطفه، وليطمئن إلى أن من نريد نسيانهم يستحقون ذلك بلا ندم منه أو تأنيب ضمير!

نُحضر شهوداً ليشهدوا شهادة زور على عظيم مصابنا، وهول ما أصابنا،

نبعث له خطاباتنا مشفوعة بالرجاء وبكل الأدلة الدامغة التي تؤكد استحقاقنا لاستضافته في ذاكرتنا... لتنظيفها مما أرّق جفوننا، وأراق دم إنسانيتنا، ولا ننسى غالباً أن نرفق مع خطاباتنا صوراً فوتوغرافية لتلك الذاكرة المزدحمة بالتفاصيل المؤلمة، وصوراً أخرى لجدران تلك الذاكرة، وقد رُسم عليها جمجمة بين عظمتين إشارة لخطورة التهديد الذي نتعرض له.

وعندما يصدّق النسيان خدعتنا، ويرقّ قلبه لنا ويقبل دعوتنا، نتبرأ منه حال انتهاء حاجتنا منه، ونصب عليه جام غضبنا، وننسب له جميع الرزايا والخطايا التي بسببها خذلتنا الذاكرة!

ونحاول جاهدين إخراجه من بيت الذاكرة بأسرع وقت ممكن، بل ونطالبه بدفع الثمن طوال إقامته هناك، مع أننا كنا قبلها نتحايل عليه بشتى الوسائل والسبل لقبول دعوتنا المجانية لاستضافته!

هذه الخبرة للنسيان معنا لا تجعله يثق بنا، لذا يحاول ما استطاع الهروب من قبضتنا والفرار من مكيدتنا التي عرفها جيداً!

لذا إن أسلم وسيلة للنسيان هي عدم اللحاق به، بل والتغاضي عنه وإبداء عدم الاكتراث به، وانه ليس بمطمع لنا، حينها فقط يأمَن جانبنا فيأتي هو طائعاً راغباً!

من جهة أخرى لنكن على يقين بأن لذكرياتنا التي نحاول الهروب منها طبع الكلاب، إذا حاولنا الفرار منها لحقت بنا لتعضنا، وإذا وقفنا بوجهها فرّت هاربة!