أفرزت ثورات الربيع ظواهر خطرة أبرزها: إسقاط "هيبة الدولة" كياناً سياسياً منظماً للعلاقات ومانعاً للتعديات، واستتبع ذلك، إسقاط "هيبة المؤسسات" الحامية للدستور والنظام والقانون والأمن، إلا أن أخطر هذه الظواهر، إسقاط "هيبة القضاء" وزلزلة "مكانتها" في النفوس، بتحريض الجماهير للتظاهر ضد أحكام القضاء والاستخفاف بها والتشكيك في نزاهة القضاة واتهامهم بالتسييس والفساد، وخضوعهم للسلطة تحت شعار "تطهير القضاء". لقد كان سقوطاً أخلاقياً وحضارياً نزول جماهير غوغائية في جمعة "تطهير القضاء" في القاهرة للتطاول على القضاء والإساءة إلى القضاة والتهديد بمحاصرة منازلهم لينتج مصادمات دامية، ويسقط عشرات الجرحى، ويضطر رئيس "نادي القضاة" المستشار الزند إلى التصريح بأن القضاة سيلجؤون إلى "الجنائية الدولية" ضد المحرضين؛ لأن رهاب القضاة وتهديدهم جرائم ضد الإنسانية، حسب التعريف الدولي.
كما اضطر وزير العدل المستشار مكي، في موقف مشرف، إلى تقديم استقالته رفضاً لمشروع تعديل قانون السلطة القضائية الذي يراد به مذبحة للقضاة، وتبعه المستشار القانوني لرئيس الجمهورية فؤاد جاد الله الذي قدم استقالته احتجاجاً على "محاولة اغتيال السلطة القضائية".لجأ القضاة أخيراً إلى مقابلة رئيس الجمهورية للتدخل لسحب المشروع، ويبدو أنه حصل نوع من التوافق المرحلي نأمل أن يصون كرامة القضاء والقضاة ويصد عنهم الإساءات، التساؤلات المطروحة على خلفية هذا التصعيد هي:أولاً: لماذا يستهدف "الإخوان" القضاء المصري؟ أتصور أنه لسببين:1- تاريخي: معروف أن علاقة "الإخوان" بالقضاء تاريخياً وإلى اليوم، ليست إيجابية، بدءاً بالعهد الملكي وحكم القاضي الخازندار 1948 على بعضهم لجرائم استخدام القنابل، ثم قتله، ثم محاولة نسف المحكمة لإتلاف الوثائق السرية للجهاز السري لـ"الإخوان" في قضية "الجيب" 1949 مروراً بعهد عبدالناصر وأحكام الإعدام بحق سيد قطب وزملائه، وصولاً إلى السادات وانتهاءً بمبارك، وهناك توجس مترسخ في اللاوعي والخيال الجمعي "الإخواني" من القضاء المصري.2- سياسي: لا يزال القضاء المصري الشامخ هو الحصن المنيع للدستور وقلعة الحقوق والحريات في تاريخ مصر الحديث، وقد وقف بالمرصاد للتشريعات الأخيرة التي أصدرتها جماعة "الإخوان" والمخالفة للدستور وأبطلها، وأبرزها حكم "الدستورية العليا" بحل مجلس الشعب لعدم دستورية قانون الانتخاب، مما جعل "الإخوان" يوقنون أن القضاء المصري هو "العقبة الكؤود" أمام استكمال وخططهم للاستحواذ مع مؤسسات الدولة.ثانياً: متى بدأ الاستهداف؟ استهداف القضاء، يأتي ضمن إطار استهداف عام وممنهج لجميع مؤسسات الدولة، ومنها الأزهر الشريف والإعلام، بهدف إعادة هيكلتها وتطويعها لتوجهات "الإخوان"، بدأ "الإخوان" حملتهم الظالمة على القضاء المصري عقب حكم الدستورية بحل مجلس الشعب وعبر 5 مراحل: الأولى: حرضوا أتباعهم للنزول للشوارع والميادين للتنديد بحكم الدستورية العليا، واتهموا القضاة بالفساد، وأنهم من أنصار النظام البائد ويجب تطهير القضاء منهم، وظاهرهم في حملتهم الشرسة، أنصارهم- هنا- في الخليج ، إذ وقف رمز إسلامي على المنبر الجامع، حرض الناس ووصف حكم الدستورية، بالمؤامرة! وفي المرحلة الثانية: عمد رئيس الجمهورية إلى إصدار "إعلان دستوري" حصَّنه من نظر القضاء لكي يمكِّن "الجمعية التأسيسية" من تمرير الدستور المسلوق الذي منحه صلاحيات مطلقة، بينما كان "الإخوان" يحاصرون الدستورية العليا ومحكمة مجلس الدولة لمنعهما من نظر دعاوى بطلان الجمعية التأسيسية. وفي المرحلة الثالثة: فرض الرئيس على القضاء نائباً عاماً تابعاً له دون التشاور مع المجلس الأعلى للقضاء ومنع المحاكم من نظر قضايا بعينها كانت منظورة بالفعل، وفي المرحلة الرابعة سارع مجلس الشورى إلى تمرير مشروع تعديل قانون السلطة القضائية بهدف الإطاحة بشيوخ القضاة، وفي المرحلة الخامسة نزل "الإخوان" أتباعهم للإساءة إلى القضاة في مليونية تطهير القضاء.ثالثاً: ما أساليب "الإخوان" لتحقيق هدفهم؟1- التشريع: منذ وصول "الإخوان" إلى المجلس المنحل وهم عازمون على التخلص من شيوخ قضاة مصر عبر مشروع تعديل قانون السلطة، وذلك بتخفيض سن التقاعد للقاضي من (70) إلى (60) سنة، وأعادوا المشروع في مجلس الشورى ذي الصلاحيات المؤقتة بهدف تمريره في أسرع وقت لأنهم لا يضمنون الأغلبية في المجلس التشريعي القادم.2- التشكيك: هدف "الإخوان" من قيادة حملات تشكيكية في القضاء والقضاة، زلزلة (مكانة القضاء) في نفوس الناس لكي يتمكنوا من تمرير قانونهم.3- التظاهرات: وذلك عبر دفع الجماهير للتظاهر ضد القضاء وتحريضهم على محاصرة دور العدالة كخطة ممنهجة يطبقها ا"لإخوان" لإسقاط هيبة القضاء تمهيداً لتطويع القضاء لنفوذهم، وقد وصف وحيد عبدالمجيد محاصرة "الإخوان" للمحكمة الدستورية العليا في 2 ديسمبر الماضي بأنه لا سابق له في تاريخ مصر منذ أن حاصر متظاهرون مجلس الدولة مارس 1954، لكن المشهد الحالي أشد خطراً وأكثر دلالة على تهديد غير مسبوق للقضاء، إذ لم تتعرض محكمة لمثل هذه الاعتداء السافر في أكثر البلاد استبداداً وتخلفاً، وستظل ذكرى هذا اليوم الأسود في تاريخ القضاء المصري باعتباره الأشد سواداً.رابعاً: ما هدف "الإخوان" من تعديل قانون السلطة القضائية؟ الهدف معروف ومعلن، وقد صرح به المرشد السابق عاكف بأن هناك نحو 3500 قاض سيتم "تفويرهم"، أي التخلص منهم، وهي كلمة تعبر عن عدم لياقة واحترام بحق القضاة، وذلك لإحلال قضاة من الموالين لهم من قطاع المحامين وأساتذة الجامعة. هذا ما يحصل في مصر ولكن شيئاً من زوابع وادي النيل وصل شواطئ الخليج في الكويت مع الاختلاف، فالحزب الحاكم هناك هو الذي يقود حملات التشكيك في القضاء أما في الكويت فتقوم المعارضة، التي قاطعت الانتخابات ومجلس الصوت الواحد ووجدت نفسها في الشارع، بتنظيم المسيرات وتحريض الشباب لرفض أحكام القضاء والتمرد على القانون وإسقاط هيبة رجال الأمن، وكما حصل في مصر عقب حكم الدستورية بحل المجلس ذي الأغلبية "الإخوانية"، من احتجاج "الإخوان" ورفضهم الحكم وتحريضهم الجماهير، كذلك حصل في الكويت عقب حكم الدستورية بإبطال البرلمان السابق ذي الأغلبية المكونة من تحالف (قبلي- إسلامي) كان يقيم الدنيا ولا يقعدها ويتحكم بمفاصل الدولة ويرهب الوزراء باستجوابات متعسفة، احتج زعماء هذا التحالف على الحكم واتهموه بالتسييس والتآمر- نفس اتهامات "إخوان" مصر للدستورية العليا- وحرضوا أنصارهم للنزول للشوارع والاحتشاد في ساحة الإرادة- مثل ميدان التحرير- للتنديد بالحكم وقال أحد زعمائهم: إن إرادة الأمة فوق السلطات، وحكم الدستورية منعدم والمجلس باق ومستمر، وقد قالت الأمة كلمتها فنحن باقون لأن الأمة اختارتنا، يريدون الاحتكام للشارع في حكم قضائي صادر من أعلى سلطة قضائية، افتئاتاً على القضاء وتعدياً على السلطات وإسقاطاً لهيبة الدولة، واستمر هؤلاء يشاغبون ويتطاولون ويشككون ويطلقون المسيرات الاحتجاجية في المناطق السكنية الآمنة ضد مرسوم الصوت الواحد، وهو منظور أمام المحكمة الدستورية وكان بوسعهم الانتظار لحين الحكم، ولكنهم لن يرتضوه إلا إذا جاء لمصلحتهم، مثلهم في ذلك مثل من قال الله تعالى فيهم "فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ".إن مما يؤسف له أن هذه الاحتجاجات الفوضوية ضد القضاء في مصر والكويت تخلق لدى الشباب (ثقافة تدميرية) خطرة هي ثقافة عدم احترام أحكام القضاء والتمرد على القوانين والتطاول على رجال الأمن، وذلك أخطر ما يصاب به أي مجتمع، ولقد وجدنا امتداد هذه الثقافة الخطرة، حين صدر الحكم على "ضمير الأمة" كما يسميه أنصاره، صاحب المقولتين المشهورتين "لن نسمح لك" و"لمثل هذا اليوم ولدتني أمي"، فقد رفض الحكم واتهمه بالتسييس واعتصم بأنصاره وفرّ من العدالة، بعد أن كان يتظاهر بالبطولة وأنه لا يخشى السجن! وعاش المجتمع الكويتي أسبوعاً يشاهد مسلسل المطاردات بين الأمن والفار، وتبارى زملاؤه فرسان المعارضة وخطباؤها في الدفاع عنه، مهددين بحشد الجموع وزعزعة الأمن قائلين "يا تسقط الكويت أو تقوم"، معتبرين أن "سجن ضمير الأمة سجناً للأمة" و"ليس وطنياً من لا يخرج للشارع". علينا أن نرسخ في أذهان الناشئة أن القضاة لا يذمون ولا يمدحون في أحكامهم، يصيبون ويخطئون، وقد رسم القانون طرق الطعن والتظلم، وإثارة الجماهير ضد القضاء عمل غير لائق وغير أخلاقي، ولا يشرف أي مجتمع متحضر، كما أن العدوان على القضاء عدوان على كل القيم والمبادئ المستقرة في الضمائر والوجدان من احترام القضاء، وحفظ هيبة القضاة وصيانة مكانتهم، والويل لأمة لا تحترم قضاءها وتحتكم للشارع في قضاياها.* كاتب قطري
مقالات
من للقضاء؟!
06-05-2013