هناك تساؤلات كثيرة تتعلق بالمسار الذي ستفضي إليه حوسبة الدوائر العصبية، وفي الوقت الراهن تعتبر الحصيلة بدائية، ولكنها إذا تمكنت من تحقيق نجاح فقد تسمح بصنع آلات ذكية تضاهي دماغ البشر أو تتفوق عليه، وهكذا تتحول روايات وأفلام الخيال العلمي إلى حقائق علمية واقعية.

Ad

   تغيرت أوجه القياس والتشبيهات... في الماضي كان السائد هو وصف الأدمغة على أنها أشبه بأنظمة هيدروليكية تستخدم لصنع نافورات وينابيع المياه الجارية داخل حدائق أرستقراطيي القرن السابع عشر، ومع استمرار التقدم التقني الذي بدأ بشبكة التليغراف فقد أصبح الاتصال الهاتفي وتبادل المكالمات خير استعارة يمكن وصف عمل الأدمغة بها.

والآن... ها قد جاء زمن الحاسب الآلي، لكن على الرغم من أن القول إن الدماغ مثل حاسوب هو، في حقيقة الأمر، مجرد استعارة، فإن هناك عددا من العلماء يودون أن يستخدموا تلك الاستعارة بصورة معكوسة.

وبدلاً من النظر والتفكير في كون الأدمغة مثل حواسيب، فإن تلك المجموعة من العلماء تريد جعل الحاسبات الآلية أشبه بالأدمغة، وتعتقد أن هذه الطريقة لن تقود الإنسانية إلى فهم أفضل لكيفية عمل الدماغ فحسب بل إلى ابتكار وتطوير حاسبات أفضل وأكثر ذكاء أيضاً.

ويصف هؤلاء العلماء أنفسهم بأنهم من مهندسي "حوسبة الدوائر العصبية" Neuromorphic computing (المحاكية لعمل المخ)، ويتركز هدفهم، حسب كارلهينز ماير الفيزيائي في جامعة هايدلبيرغ وهو أحد رواد تلك المجموعة، على تصميم حاسوب لديه بعض أو كل– في أحسن تقدير- السمات الثلاث التي تتمتع بها الأدمغة البشرية وليست موجودة في الحاسوب.

وهذه الصفات هي:

1- الاستهلاك المنخفض للطاقة (تستخدم الأدمغة البشرية حوالي 200 واط بينما تحتاج الحاسبات الآلية الفائقة الحالية التي تحاول محاكاتها إلى العديد من "الميغاواطات" للوصول إلى تلك الغاية).

2- تحمل حدوث أخطاء (إذ إن فقدان شريحة واحدة يمكن أن يدمر المشغل بأكمله غير أن الأدمغة تفقد خلايا عصبية طوال الوقت).

3- عدم الحاجة إلى برمجة (فالأدمغة تتعلم وتتغير بصورة فورية ومتوالية أثناء تفاعلها مع العالم المحيط، بخلاف الحاسبات التي تتبع مساراً محدداً ومعادلات رياضية مسبقة التجهيز).

مبادرة الدماغ البشري

ومن أجل تحقيق هذه الأهداف يتعين على مهندسي الدوائر العصبية المحاكية للدماغ البشري محاولة صنع حالة تناظر بين الدماغ- الحاسوب بصورة حقيقية. ونظراً لأنه ليس هناك من يعرف حقاً كيف تعمل الأدمغة بشكل كامل، فإنه قد يتعين عليهم حل تلك المشكلة بأنفسهم أيضاً. وهذا يعني سد الفجوة عبر فهم علماء الأعصاب للعضو المعني، وبشكل خاص فهو يعني بناء خلايا دماغية اصطناعية وربطها بطرق متعددة في محاولة لمحاكاة ما يحدث في الدماغ بشكل طبيعي.

تقع الفجوة الواسعة في فهم علماء الأعصاب لموضوعهم في المستوى المتوسط من تشريح الدماغ. ولدى العلم معرفة مقبولة عن كيفية عمل الخلايا العصبية عند الإنسان، فضلاً عن طريقة ونوعية عمل كل الفصوص المرئية في الدماغ، غير أن الغموض يكتنف عملية تنظيم تلك الخلايا في الفصوص. وعلى الرغم من ذلك فإن هذا هو المستوى الذي يقوم بعمل التنظيم المتعلق بالتفكير الفعلي والواقعي- ويفترض أن يكون نقطة الوعي عند الإنسان، ولهذا السبب فإن رسمها وفهمها يتسمان بأهمية كبيرة في "مبادرة الدماغ الأميركية" التي أعلنت من قبل باراك أوباما في أبريل الماضي. وقد تكون الطريقة الوحيدة لفهم ما تظهره الصور هي برمجتها على الحاسوب، ومن المحتمل أن تظهر النماذج أولاً وتعمل على توجيه العلماء. وبكلمات أخرى، قد تكتشف الدوائر العصبية المبادئ الأساسية لعملية التفكير قبل أن يتمكن علم الأعصاب من القيام بذلك.

أجهزة عصبية

هناك اثنان من أكثر برامج الدوائر العصبية تقدماً يجري العمل فيهما تحت إشراف "برنامج الدماغ البشري"- وهي محاولة طموحة من قبل المؤسسات الأوروبية العلمية لبناء محاكاة للدماغ بحلول سنة 2023، والحواسيب التي يتم تطويرها لهذه الغاية تستخدم بشكل أساسي طائفة من الأساليب المختلفة- ويطلق على أحد تلك الأساليب "سبينّاكر"، وتم صنعه من ستيفن فيربر من جامعة مانشيستر، وهو حاسوب رقمي من النوع المألوف في الأعمال اليومية في العالم.

أما الآلة الأخرى التي تدعى "سبايكي"، فيتم تصنيعها من مجموعة الدكتور ماير، وهي ترجع إلى حواسيب قديمة وتمثل الأرقام في صورة نقاط على نطاق كهربائي متفاوت بشكل مستمر، ويظن ماير أن عملها الذي هو أقرب إلى الجهاز العصبي الحقيقي يجعل تلك الحاسبات الآلية أفضل أداءً.

يعمل الدكتور فيربر وأفراد فريقه في برنامج "سبينّاكر" منذ سنة 2006، من أجل اختبار الفكرة التي توصلوا إليها قبل سنتين، وكانوا قد وضعوا نسخة مكونة من 18 معالجاً، وهم يعملون الآن على نسخة أكبر حجماً معدة للعمل بحلول سنة 2014. ويقول الدكتور فيربر إن العدد الكبير من الرقاقات التي يتضمنها ذلك الحاسب الآلي العملاق الفائق التطور سيمكنه من صنع ما نسبته 1 في المئة من الدماغ البشري.

وفي الوقت الراهن حتى تلك الحواسيب الفائقة يجب أن تعمل بصورة بطيئة، كما أنه لا يخطط للتوقف عند هذه النقطة، وهو يأمل أن يتمكن بحلول سنة 2020 من تطوير نسخة من "سبيناكر" تتمتع بقدرة أداء تبلغ 10 أضعاف المعالج الحالي المعروف باسم "1 إم".

«إمكانات عمل»

ويعمل "سبيناكر" من دون حاجة إلى برمجة، وبدلاً من التنقل بين عدد من الكتل الكبيرة نسبياً من المعلومات والبيانات تحت إشراف كتلة مركزية وهي الطريقة المتبعة في عمل معظم الحاسبات العصرية، فإن المعالج يطلق العديد من القطع المتناهية الصغر من المعلومات متى أراد وبالطريقة التي تناسبه.

 وهذه هي الوسيلة التي تعمل بها الخلايا العصبية، وتمر الإشارات عبر خلايا على شكل نبضات ومؤثرات كهربائية يطلق عليها "قدرات العمل" التي تحمل القليل من المعلومات وبقدر أقل مما حدث فعلاً.

وفي استطاعة مثل هذه "الإشارة غير المتزامنة" (التي يطلق عليها هذا المسمى لافتقارها إلى نظام التوقيت المركزي للتزامن الذي يشبه حركة الساعة) معالجة معلومات بوتيرة تفوق في سرعتها عملية تزامنية، وذلك نظراً لعدم حدوث أي هدر للوقت من أجل انتظار دقة الساعة. كما أن هذه الطريقة تستخدم كمية أقل من الطاقة، وفي حالة فشل المعالج فإن النظام يعيد مساره حول نفسه- ونظراً لأنه ليس من السهل برمجتها يعمد معظم مهندسي الحواسيب إلى تجاهل الإشارة السالفة الذكر- ويمكن القول إن هذه الطريقة تعتبر مثالية وكاملة بالنسبة إلى تقليد الأدمغة ومحاكاة طريقة عملها.

غير أنها على أي حال قد لا تكون على القدر ذاته من مثالية أسلوب التناظر أو القياس- ولم يقرر الدكتور ماير حتى الآن التخلي عن الطريق الرقمي بصورة تامة، لكنه كان يميز في استخدامه بصورة معينة، إذ يستعمل المكونات الرقمية من أجل محاكاة رسائل مرسلة عن طريق نقاط التشابك التي تربط بين الدوائر العصبية- ومثل تلك الرسائل تحاكي مثيلاتها التي تحملها المادة الكيماوية في الأدمغة البشرية لكنها في تلك الحالة رقمية النوع والأداء.

ويعتبر إطلاق المرسلات العصبية استجابة لوصول "إمكانية عمل" محتملة. وعلى أي حال فإن الخلية العصبية لا تطلق المزيد من "إمكانات العمل" بمجرد تلقيها واحدة من إشارات المرسلات العصبية. وهي تعمل بدلاً من ذلك على تجميع ما يعرف باسم "عتبة" أو منصة عندما تتلقى عدداً معيناً من الإشارات، وتجاوز العتبة- وهي عملية رقمية متماثلة بشكل أساسي- فإنها تطلق "إمكانات عمل" وتعيد ترتيب نفسها. وهذا هو العمل الذي تقوم به خلايا "سبايكي" العصبية من خلال تجميع شحنة في صورة مكثفات في كل مرة تتم فيها محاكاتها إلى أن يتم بلوغ العتبة، ومن ثم يقوم المكثف بإطلاق الشحنة.

هل بلغنا نقطة الكمال؟

في مدينة زيوريخ عمد جياكومو إنديفيري، مهندس دوائر عصبية في "معهد نيوروفورماتيكس" الذي يخضع لإدارة مشتركة بين جامعة زيوريخ وجامعة الهندسة "آي تي إتش" في المدينة، إلى انتهاج المسار ذاته في التناظر ومحاكاة الأدمغة البشرية، وهو يعمل بصورة مستقلة ولديه غاية مختلفة وعملية بقدر أكبر. ويسعى الدكتور إنديفيري إلى وضع مبادئ يطلق عليها اسم "نظم معرفية مستقلة" تحدد موقع الشخص المستهدف سواء أكان في حفل موسيقي أو سيارة أو على الشاطئ، وتقوم بتعديل نتائجها وفقاً لذلك. وفي رأيه يتعين أن تقدم مثل تلك الأشياء نفس الوزن والحجم واستهلاك الطاقة الذي يتمتع به مماثلها الطبيعي العصبي، مع العمل والتصرف بصورة طبيعية بأكبر قدر ممكن.

ويتمثل جزء من هذا الأسلوب الطبيعي بأن "الترانزيستور" في أنظمته المذكورة يعمل في أغلب الأحيان وفقاً لما يعرف بشكل تقني باسم "حقل ما قبل العتبة"، وهي الحالة التي تكون شريحة الترانزيستور مغلقة (أي أنها لا يفترض لها أن تنقل تياراً) غير أن الواقع يشير إلى حدوث تسريب كمية ضئيلة جداً من التيار (تعادل واحد إلى مليار من الأمبير الواحد) لأن الإلكترونات تفقد وتتهدم على عتبتها.

خلايا اصطناعية

وبالعودة إلى حقبة الثمانينيات من القرن الماضي، كان المهندس كارفر ميد الذي يعمل في "معهد التقنية" في كاليفورنيا الذي يعتبر على نطاق واسع مؤسساً لفكرة حوسبة الدوائر العصبية (وهو من ابتكر المصطلح نفسه)، قد أجرى تجربة أظهرت أن "حقول ما قبل العتبة" السالفة الذكر تعمل بشكل مماثل لقنوات البروتينات المتآينة في نسيج الخلية البشرية التي تتولى نقل جزئيات الصوديوم والبوتاسيوم المشحونة كهربائياً إلى داخل الخلية وخارجها، وأنها مسؤولة، ضمن أشياء أخرى، عن تكوين ما يطلق عليه "إمكانات العمل". وبهذا تمثل عملية استخدام "حقول ما قبل العتبة" طريقة جيدة من أجل تقليد "إمكانات العمل" وعبر استهلاك طفيف للطاقة- كما لو كان لدينا نظام بيولوجي حقيقي.

وتعمل أجهزة الدكتور إنديفيري بالسرعة ذاتها التي تعمل بها الدوائر البيولوجية، وهو ما يسمح لها بالتفاعل مع الدوائر البيولوجية الحقيقية إضافة إلى معالجة الإشارات الطبيعية مثل الكلام أو الحركات والإيماءات بصورة فعالة.

ويقوم د. إنديفيري في الوقت الراهن باستخدام مفهوم "حقل ما قبل العتبة" لتطوير رقائق الدوائر العصبية التي تحتوي على المئات من الخلايا العصبية الاصطناعية والآلاف من نقاط التشابك العصبي الواقعة بينها.

وعلى غير المألوف في مجالات تقنية المعلومات، فإن مجال "حوسبة الدوائر العصبية" تهيمن عليه مجموعة من العلماء والباحثين الأوروبيين وليس الأميركيين، وهي ظاهرة غير عادية، ولكن لا أحد يعلم إلى متى ستستمر تلك الحالة من الهيمنة لأن العلماء في الجانب الآخر من المحيط الأطلسي يحاولون بقوة اللحاق بنظرائهم الأوروبيين.

 وهناك على وجه التحديد مشروعات أميركية معادلة لذلك لا سيما "مشروع الدماغ البشرية" الذي يعتمد على تقنيات الحاسبات والدوائر العصبية البلاستيكية المتطورة والتي ترعاها "وكالة مشاريع بحوث الدفاع المتقدمة"، والتي تشرف بدورها على تصنيع حاسبين آليين يعملان وفق تقنيات الدوائر العصبية.

الأميركيون قادمون

وقد تم تصميم واحد من هذين الحاسوبين لدى مختبرات "إتش آر إل" في مدينة ماليبو بولاية كاليفورنيا، وهي منشأة مملوكة بصورة مشتركة من شركتي "بوينغ" و"جنرال موتورز". ويقول رئيس المشروع نارايان سرينيفازا إن رقاقته الخاصة بالدوائر العصبية المحاكية للمخ البشر لا تتطلب أي برمجة أكواد خاصة من أجل العمل، وأنها تتعلم من خلال الممارسة والعمل في حد ذاته، على غرار الأدمغة البشرية.

والمكون المهم في دماغ الإنسان هو ما يطلق عليه "شبكة العالم الصغير"، حيث تملك كل خلية عصبية في داخل تلك الشبكة عشرات الآلاف من الاتصالات والروابط مع خلايا عصبية أخرى. وهذا يعني أنه على الرغم من احتواء دماغ الإنسان على ما يقارب 86 مليار خلية عصبية، فإن كل واحدة تقع ضمن وصلتين أو ثلاث وصلات من الخلايا الأخرى كلها عن طريق مسارات لا تعد ولا تحصى.

في الأدمغة الطبيعية وفي العديد من المحاولات الرامية الى صنع أدمغة اصطناعية (بحسب الدكتور سرينيفازا)، فإن عملية تشكيل الذاكرة تنطوي على مهام تقوية بعض تلك الروابط المتشابكة وتشذيب البعض الآخر. وهذا ما يسمح للشبكة بمعالجة المعلومات من دون الحاجة إلى الاعتماد على برنامج حاسوب تقليدي. غير أن واحدة من المشاكل التي تواجه صنع "شبكة عالم صغير" اصطناعية من هذا النوع تتمثل بربط كل الخلايا العصبية ضمن نظام يحتوي على العديد منها.

الساعة المركزية

ويقوم الكثير من رقائق الدوائر العصبية بهذا العمل من خلال استخدام ما يعرف باسم "هندسة تجاوز الحاجز"، وهي شبكة كثيفة من الأسلاك يرتبط كل واحد منها مع خلية عصبية في تلك الشبكة. ويعمل ذلك بشكل جيد بالنسبة الى الدوائر العصبية الصغيرة، ولكنه يصبح أقل تأثيراً مع الزيادة في أعداد الخلايا العصبية.

ومن أجل اجتياز تلك المسألة، يستخدم د. سرينيفازا طريقة متزامنة لتحقيق "إرسال متعدد ومتشابك" بين نقاط التشابك العصبية، وهي الوسيلة التي تؤدي إلى جعل كل نقطة تشابك مادية تتولى مهام ما يصل إلى 10 آلاف نقطة افتراضية، وتنتقل- حسبما يظن- إلى وضعية جديدة خلال 100 مليار من الثانية الواحدة. ويتطلب مثل ذلك الجهاز ساعة مركزية من أجل تنسيق كل عمل، وتقوم تلك الساعة بالأداء المطلوب بسرعة. ويعمل الدماغ بصورة نموذجية عند قوة تراوح بين 10 هرتز و100 هرتز، بينما تعمل رقاقة الدكتور سرينيفازا عند قوة ميغاهرتز... غير أن هذا يسمح لكل واحدة من خلاياه الجهاز العصبية الإصطناعية البالغة 576 خلية بالتحدث إلى كل خلية أخرى خلال الوقت ذاته الذي يحدث فيه، وهو ما يجري فعلياً في شبكة طبيعية تحمل ذلك الحجم.

ويعمل د. سرينيفازا وفريقه مع شركة "أيرو فيرونمنت" التي تقوم بتصنيع نماذج لطائرات من دون طيار قد تتمكن، على سبيل المثال، من الطيران داخل أحد المباني لكشف أي اضطرابات بداخله.

تشذيب الروابط

أما المشروع الأميركي الآخر، فهو يطلق عليه "ساينابسي" SyNAPSE، ويدار من الدكتور دارميندرا مودا العالم في مختبر "ألمادن" التابع لشركة "آي بي إم" في سان جوزيه بالتعاون مع أربع جامعات أميركية هي: كولومبيا وكورنيل وكاليفورنيا وويسكونسين- ماديسون، وقد صنع هذا العالم مع فريقه نموذجاً أولياً لحاسوب يحتوي على 256 خلية عصبية يدعى "تكامل... وانطلق"، وأطلق عليها ذلك المسمى لأنها تراكم المخرجات لحين التوصل إلى عتبة ثم تنطلق في التعبير عنها وإعدادها بنفسها، وهي بذلك تحاكي في محتوياتها "نقاط التشابك" في مشروع "سبايكي" على الرغم من اختلاف التفاصيل الإلكترونية؛ لأنها تستخدم الذاكرة الرقمية من أجل تسجيل الإشارات الواردة بدلاً من "المكثفات" المستخدمة في حاسوب "سبايكي".

وتشتمل رقاقة الدكتور مودا على 262 ألف نقطة تشابك تستطيع من خلالها الخلايا العصبية إعادة الاتصال بحسب المواد التي تتلقاها، كما هي الحال في الدماغ الحقيقي. وعلى غرار المخ البشري أيضاً فهي تتذكر الأنشطة الحديثة العهد وتستخدمها كمعرفة لها من أجل تشذيب بعض الروابط وتحسين الروابط الأخرى خلال عمليات إعادة الارتباط.

قشرة الدماغ

وقد تمكن الدكتور مودا وفريقه حتى الآن من تعليم حاسوبهم كيفية لعب مباراة "بونغ"، وهي واحدة من أول ألعاب الفيديو وأكثرها بساطة وسهولة، إضافة إلى تعليم الحاسوب كيفية تمييز الأرقام من الصفر إلى 9. وفي برنامج التعرف على الأرقام وعندما يقوم أحدهم بكتابة رقم على شاشة اللمس، فإن رقاقة الدوائر العصبية تستخرج الجوانب الأساسية للكتابة وتستخدمها لتخمين ذلك الرقم بطريقة تخرج صحيحة في العادة.

قد يبدو هذا الإنجاز أولياً وبسيطا إلى حد كبير، غير أن الهدف منه هو إثبات قاعدة مبدئية فقط، سيتم العمل على ترقيتها وتنميتها.

ما هو متعارف عليه بالنسبة إلى الهيكل التركيبي المتوسط للمخ البشري، هو أنه يتألف من وحدات، كما أن لحاء القشرة الخارجية للمخ الذي تتجمع فيه معظم الخلايا العصبية، وحيث يوجد ثلاثة أرباع حجم الدماغ يتكون من العديد من المسارات والأعمدة يضم كل واحد منها حوالي 70 ألف خلية عصبية. ويخطط الدكتور مودا للقيام بشيء مماثل، فهو ينوي استخدام رقاقاته على شكل معادل لأعمدة قشرة الدماغ وربط بعضها ببعض لإنتاج حاسوب شبيه بالدماغ البشري بصورة فعلية، وقد بلغ تلك المرحلة. وفي حقيقة الأمر فقد تمكن من محاكاة نظام يشتمل على مئة تريليون من نقاط التشابك، وهو رقم يحاكي فعليا عدد الخلايا العصبية في قشرة المخ البشري.

ما بعد تلك المعرفة

هناك تساؤلات كثيرة تتعلق بالمسار الذي ستفضي إليه حوسبة الدوائر العصبية، وفي الوقت الراهن تعتبر الحصيلة بدائية، ولكنها اذا تمكنت من تحقيق نجاح فقد تسمح بصنع آلات ذكية تضاهي دماغ البشر أو تتفوق عليه- وهكذا تتحول روايات وأفلام الخيال العلمي إلى حقائق علمية واقعية.

الأبعد من ذلك أن الأمور قد تتطور بصورة أسرع لتتجاوز تلك الفكرة القائلة إن الدماغ صندوق أسود ليس في وسع العلم اختراقه.

وقد بدأت الأموال تتدفق على تلك المسألة لفك طلاسم تلك التساؤلات؛ فهناك ميزانية قدرها مليار دولار (1.3 مليار يورو) مخصصة لـ"مشروع الدماغ البشري" على مدى السنوات العشر المقبلة، كما أن "مبادرة الدوائر العصبية" المحاكية للمخ البشري بلغت ميزانيتها في السنة الأولى 100 مليون دولار، كما أن الحاسبات التي تعمل بالدوائر العصبية ربما تتجاوز ميزانيتها تلك المبالغ بكثير.

في العادة يميل الإنسان إلى التفكير في أن دماغه أكثر تعقيداً من أدمغة المخلوقات الأدنى- وهو كذلك حقاً... غير أن الفارق المعروف بشكل مؤكد بين دماغ الإنسان وأدمغة القردة مثلاً هو أنه أكبر حجماً. ومن هذا المنطلق قد يتمحور الأمر حول مسألة ربط ما يكفي من مكونات الدوائر العصبية المحاكية للدماغ البشري بصورة ملائمة وتركها تعمل ذاتياً- وإذا نجحت هذه الطريقة، فإننا سنصل إلى مرحلة وصفها العالم مارفين مينسكي مؤسس علوم ومجالات الذكاء الصناعي- سنرى فيها الأجهزة تقتني البشر كالحيوانات الأليفة!