لم أعاصر {العندليب الأسمر} عبد الحليم حافظ (21 يونيو 1929 - 30 مارس 1977)، الذي نحتفل هذه الأيام بالذكرى السادسة والثلاثين لرحيله. تلقيت خبر وفاته وأنا في التاسعة عشرة من عمري، لكنني عاصرت زمن {النمر الأسود} أحمد زكي (18 أغسطس 1949 - 27 مارس 2005)، الذي مرت منذ أيام الذكرى الثامنة لرحيله، وابتسمت لي الأقدار فالتقيته مراراً وتكراراً أثناء عملي الصحافي، وكان اللقاء الأول في «كواليس» فيلم «كابوريا» (1990)، ويومها تقمص دور الشاب «حسن هدهد» ابن الطبقة الشعبية الذي يراوده حلم الوصول إلى الأولمبياد بكل حواسه لدرجة أنه شعر بانتفاخ غير طبيعي في بطنه أرجعه الطبيب إلى توحده مع الشخصية، وقلقه على النتيجة النهائية للتجربة، التي كانت تمثل مغامرة بالفعل، وبعدها تعددت اللقاءات في أكثر من موقع تصوير؛ ففي الفيوم أمضيت يوماً كاملاً معه وأسرة فيلم «الراعى والنساء» (1991)، وفي شقة آيلة للسقوط في حي الظاهر اختارها المخرج عاطف الطيب لتكون مكتب المحامي مصطفى خلف في فيلم «ضد الحكومة» (1992)، وفي شقة والدة الفنانة شيرين سيف النصر في إحدى البنايات قبالة حديقة الحيوان في الجيزة جمعني لقاء معه أثناء تصوير فيلم «سواق الهانم» (1994)، وتكرر اللقاء في شقة في المعادي أثناء تصوير فيلم «إستاكوزا» (1996)، ويومها احتدم الخلاف بينه والمخرجة إيناس الدغيدي، وتسبب في إيقاف التصوير إلى حين عاد الوئام بينهما، وعادت الكاميرا إلى الدوران!  

Ad

يُذكرني الخلاف العاصف بين {النمر الأسود} والمخرجة إيناس الدغيدي بالأزمة التي احتدمت بيني والنجم الكبير في أعقاب تصوير فيلم {أيام السادات} (2001)؛ ففي ظهيرة أحد الأيام فوجئت بمكالمة هاتفية كان طرفها الثاني {النمر الأسود}، وقبل أن أنطق بكلمة باغتني بالسؤال: {من أين أتيت بصور فيلم {أيام السادات} التي نشرتها في مجلة {روز اليوسف} رغم سياج السرية الذي فرضته على الجميع؟ وبعد برهة استجمعت فيها نفسي بادرته: {الصحافي لا يُسئل عن مصدره؟}، وبهدوء أعصاب لم يكن مألوفاً عنه عاد للقول: {ألا تعلم أن ضرراً كبيراً أصابني كمنتج للفيلم بعد نشر هذه الصور؟}، فعلقت: {أنت أول من يعلم أنني لم أتعمد إلحاق الضرر بك، لكنني اجتهدت كصحافي، ونجحت في اختراق الحصار، وحصلت على الصور بطريقتي الخاصة}!

قرابة النصف ساعة حاول خلالها أن يقنعني بالكشف عن المصدر الذي سلمني صور {أيام السادات} وتشبثت بموقفي الرافض، فما كان منه سوى أن لجأ إلى ابتزازي عاطفياً بالإشارة إلى أن الشخصيات ذائعة الصيت التي نشرت صورها في المجلة طالبت برؤية المشاهد التي تناولتها قبل الموافقة على عرض الفيلم، الأمر الذي لم يكن في الحسبان، وأعرب لي عن مخاوفه من نشوب أزمة قد تؤدي إلى حظر عرض الفيلم أو تأخير طرحه في صالات العرض التجاري، لكنني لم أستسلم ولم أضعف ورفضت الإفصاح عن المصدر الذي سرّب الصور، وقبل أن يُنهي المحادثة الهاتفية قال، وقد تملكه شعور كبير باليأس: «إصرارك على الموقف يعني أنك تُغلق قنوات الاتصال وأبواب التعاون بيني وبينك في المستقبل!»، وأكد لي أن ثمة مشاريع فنية كثيرة سيخوضها في الغد القريب، لكنني لن أجد لنفسي مكاناً فيها، وكان تهديده بمثابة «إعلان قطيعة» من طرف واحد؛ حيث نأيت بنفسي عن التواجد في موقعي تصوير فيلمي «معالي الوزير» (2002) و{حليم» (2006)، لكنني لم أمنع نفسي من الكتابة عنهما!

من اقترب من عالم أحمد زكي يُدرك أن أياديه البيضاء كثيرة، وأن في داخله «إنساناً عظيماً»، بل «طفل كبير» لم تلوثه الأيام ولم تُفقده براءته، وربما لهذه الأسباب كافة ذهبت ذات يوم إلى مكتب د. مدكور ثابت وقت كان يتولى منصب رئيس الإدارة المركزية للرقابة على المصنفات الفنية، وبمجرد دخولي فوجئت بوجود النجم الكبير أحمد زكي، وتوقعت هبوب عاصفة عاتية لا تُبقي ولا تُذر، وأن تتجدد المواجهة بيني و{النمر الأسود» بصورة أكثر ضراوة، وإذا به يصافحني بحرارة ويتوجه إلى د. مدكور ثابت قائلاً: «الطيب ده عنيد جداً بس صحافي شاطر»!

 لحظتها أدركت كم هو إنسان بمعنى الكلمة، وأنه يحمل بين جانحيه «قلباً أبيض» لا يعرف الكراهية، وأنه سريع الغضب والانفعال، لكن غضبه لا يتجاوز اللحظة التي ينفجر فيها، وشظاياه لا تتعدى المكان الذي يقف فيه.