"آفاق التناصية} كتاب مؤسّس، لأنه يحتوي بين دفتيه على مجموعة من النصوص تعالج موضوعاً شغل النقاد والمفكرين منذ أن صاغت له جوليا كريستيفا مصطلحاً حمل تحته كثيراً مما أطلق عليه من الناقد الروسي ميخائيل باختين مصطلح {الحوارية}. وما إن صاغت مصطلح التناصية حتى سارع النقاد والسيميائيون والمهتمون بالقراءة والتلقي إلى استخدامه وتطويره وتفصيل مداخله ومخارجه. فكان ما كتبه رولان بارت وما كتبه جيرار جينيت اللذين نجد نصوصهما مترجمة في الكتاب. ولعل منطلق التطوير كان في مقالة بارت {نظرية النص} وكتابه {لذة النص}، ومقالة {من العمل إلى النص} ومصطلح {النص} كما يقال: {سلاح في وجه الزمن والنسيان، في وجه براعات القوّال التي تستدرك، وتخلط، وتتنكر بسهولة تامة}. ولكن هل تظلّ المفاهيم والأفكار ثابتة أم تتعدد بتغيير الأزمنة؟

Ad

يتصدى الكتاب أيضاً لعرض مفاهيم معرفية جديدة يمكن أن يتتبعها القارئ منذ ولادتها عند الأعلام المذكورين، ناهيك بـ}السيميائية} و{القراءة} مما كان له أثر غير منكر في تطور النظرية النقدية الحديثة عند الغربيين والعرب على حد سواء.

نظرية النص

في مقدمته لفصل بعنوان {نظرية النص... رولان بارت}، يعتبر محمد خير البقاعي أنه في هذا النص تتجلى ثقافة بارت المتشعبة التي تبرز في استخدامه نتائج علم النفس وعلم الرياضيات في سبيل الوصول إلى نتيجة واضحة يطرحها في نظرية النص. فهذا النص يمثل رفضاً للعلوم المعيارية، كالبلاغة وفقه اللغة وتاريخ الأدب انطلاقاً من اللسانيات التي تقف عند حدود الجملة إلى فضاء النص الذي يطل برأسه في أي أثر كتابي ويحتاج تلمسه إلى لطف الصنعة، ورهافة الذوق، ولا يقتصر مفهوم النص على الأمور المكتوبة بل يتجاوزها إلى الفنون التعبيرية كالرسم والموسيقى. يضيف البقاعي أن هذا النمط من النقد يتجاوز حدود اللسانيات إلى عالم أكثر رحابة، أكثر إبداعاً إنه عالم النص.

يؤكد بارت أن النص يعيد توزيع اللغة، فتبادل النصوص أشلاء نصوص دارت أو تدور في فلك نص يعتبر مركزاً، وفي النهاية تتحد معه، هو أحد سبل التفكك والانبناء: كل نص هو تناص، والنصوص الأخرى تتراءى بمستويات متفاوتة وبأشكال ليست عصية على الفهم بطريقة أو بأخرى، إذ نتعرف إلى نصوص الثقافة السالفة والحالية: فكل نص ليس إلا نسيجاً جديداً من استشهادات سابقة. وتعرض موزعة في النص قطع مدونات، صيغ، نماذج إيقاعية، ونبذ من الكلام الاجتماعي، لأن الكلام موجود قبل النص وحوله.

فالتناصية، قدر كل نص، مهما كان جنسه، لا تقتصر حتماً على قضية المنبع أو التأثير: فالتناص مجال عام للصيغ المجهولة، التي يندر معرفة أصلها، استجلابات لاشعورية عفوية مقدمة بلا مزدوجين. ومتصور التناص هو الذي يعطي، أصولياً، نظرية النص جانبها الاجتماعي: فالكلام كله، سالفه وحاضره، يصب في النص، ولكن ليس وفق طريق متدرجة معلومة، ولا بمحاكاة إرادية، وإنما وفق طريق متشعبة، صورة تمنح النص وضع الإنتاجية وليس إعادة الإنتاج.

وفي خاتمة الفصل المعنون بـ}آفاق التناصية}، إشارة إلى أن للدراسات التناصية مستقبلاً يختلف باختلاف كونها مكرسة لإنشاء العلاقات بين عمل وعمل، وبين نوع ونوع حسب معايير التحويل أو المحاكاة، برنامج الشعرية الجينيتية، أو أنها ستجهد نفسها لتحديد الشروط المثالية لقراءة النص على طريقة ريفاتير أو تودوروف. إنها تستطيع، وقد أعيد سكبها في حقل المؤسسات أو الطبائع، جرياً وراء كريستيفا، أن تسند للكتابة الاهتمام على عكس نظريتها الخاصة وهذا لأهداف أيديولوجية. وثمة أيضاً اتجاه ليس أقل حسماً، فتقدم اللسانيات في الخمسينيات أوحى في العقد التالي بشكل من النقد يصادر على تشاكل العبارات والمحتوى حسب مبدأ المعادلة التي أظهر رومان جاكبسون صيغتها الشهيرة. وسمحت مشاركة باختين أيضاً بقلب ذلك الميل لتحديد التحليل بالمستويات التي تحددها اللسانيات فقط. فإن وجد التناص يعني ذلك أن فضاءً رحباً من الأدب في الدرجة الثانية {يفتح في وجه القارئ الفضولي} و{الناقد}.

تشعّب المناهج

في فصل بعنوان {نحو علم الأدب، اتجاهات النقد المعاصر} للفرنسي روجيه فايول، يرى الأخير أن النقد الأدبي اليوم يتسم بتشعب مناهجه، وبوفرة المطبوعات النظرية الخارجة عن المألوف، والمحاولات التطبيقية. وعلى رغم ذلك، ليس عشوائياً ما نلاحظه من طموح مشترك لكل تلك المحاولات فيما يتجاوز تشعبها وتعارضها: ليس ذلك الاهتمام المشترك وليد يومه، وإنما هو إحياء لهدف قديم، خاص بعصر الفلسفة الوضعية: إنه الأمل في التوصل إلى تفسير علمي للأعمال الأدبية. ويلفت فايول إلى أن النقد المعاصر يطمح إلى تقديم تفسيرات أكثر عمقاً، وأشد ترابطاً من التفسيرات التقليدية مستعيناً بمناهج تسمح بملاحظة بعض الجوانب يُلاحظ أنها ذات دلالات معينة، ثم يحاول إثر ذلك تفسير تلك الجوانب الدالة.

يتابع فايول إن تفسير الأعمال يقوم على الكشف عن عناصرها التي يضع انتظامها بعين الاعتبار بنية تلك الأعمال وفهمها كأعمال أدبية: ويمكن البحث عن انتظام العناصر المعينة داخل النص نفسه، وداخل النص وحده. ويمكن لذلك الانتظام أيضاً أن يتكون بإنشاء نوع من العلاقة بين العناصر النصية وبين ظواهر خارجية عن العمل مهما كانت ضرورة تلك الظواهر ضعيفة في تحديد وجود العناصر النصية داخل العمل. وعندئذ تبدو أربعة نماذج ممكنة للبحث، فإما أن نفسر العمل متأولين كل العلاقات الداخلية في النص، إما أن نفسره باحثين عن الروابط التي تربطه بمؤلفه، وإما أن نفعل ذلك موضحين علاقاته بالمحيط الاجتماعي الذي يعيش فيه مؤلفه، وإما أخيراً أن نفسره معتمدين عن الآثار التي يتركها على قارئه.