شتاء كان شديد الزمهرير وليلة هواؤها الشرقي يلفح ويُقفِّعُ الأيدي ويجعل الأبدان تتكور على نفسها حتى تصبح كقرعة كبيرة... وكانت القرية قد آوت إلى فراشها في وقت مبكر، وكان دخان "المزابل" المحترقة يتصاعد، ونباح الكلاب يتردد صداه في الأودية والشعاب المجاورة.
كان ابن عم لي قد عاد تواً من معالجة طويلة بدون جدوى لاستعادة بصره الذي تركه مع الكثير من دمه في "كفار عصيون"، عندما هبطت قذيفة أطلقها اليهود على أحد مواقع الجيش العربي في فلسطين أمامه على حافة الخندق الذي كان يرابط فيه، وكانت آخر صورة رآها وانتقل إلى جوار ربه دون أن يرى غيرها هي ومضة تلك القذيفة، وسط ظلام ليل كان يتلوى ألماً تحت أمطار القنابل والشظايا وهدير المدافع. كنت أحد الذاهبين في تلك الليلة الباردة للتحلق، مع الآخرين من عمري ومن أعمار مختلفة، حول ابن عمي الذي كان ولايزال يرتدي ملابسه العسكرية الجميلة لنسمع منه قصصاً وروايات لا تنتهي عن حرب فلسطين واليهود وبطولات الجيش العربي وشتائم الضباط الإنجليز البذيئة التي كان يحفظ بعضها ويرددها أمامنا من قبيل استعراض مقدرته ومعرفة كل شيء. لم يبق الحديث، في تلك الليلة التي كان ريحها صرصراً، يدور حول حرب فلسطين وأهل فلسطين "الكرماء" واليهود "الأوغاد"، فقد انبرى أحد المشهورين بسعة الخيال للقول إنه في ليلة سابقة من عام سابق كان يمر بمنطقة "القَبْو" التي هي عبارة عن خرائب قديمة تكثر الأحاديث عن أشباح مرعبة تسكنها وتعترض طرق عابري السبيل في ساعات الليل المتأخرة، فرأى مخلوقاً عجيباً بعين واحدة وأنياب طويلة وأذنين منتصبتين وقوائم قصيرة ولون رمادي وصوت مرعب يخرجه من جوفه كحشرجة شيخ عجوز في لحظات مصارعة الموت. لقد أخذت أتكور على نفسي وأنا أتابع الراوي صاحب الخيال المتسع، وهو يُطنب في وصف بشاعة ذلك المخلوق العجائبي وقسوته وكبر رأسه وطول أنيابه، ولقد كنت أرى هذا المخلوق العجيب بين ألسنة النار التي كانت تتصاعد من الموقد الطيني الذي كان يحتل منتصف "الدار" التي ترفع قنطرة، على هيئة هلال، سقفها الذي هو عبارة عن بضعة قضبان من الحور تحمل على كاهلها خيمة من البلان المستند إلى الكثير من أعواد القصب "الدّرْمَك" المتراصة. لم أستطع تَحمُّل ما كان يرويه الراوي واسع الخيال فانسلَّيْت إلى الخارج حيث الرياح الشرقية تزمجر ودخان "المزابل" المحترقة يتصاعد عالياً ليقترب من معانقة النجوم، وحيث صدى نباح الكلاب الراجع من الأودية والشعاب المجاورة يزيد الأجواء رهبة ووجوماً... ولأن "القبو" الذي يسكنه ذلك المخلوق الأسطوري كان يقع إلى الشمال من طريقي إلى دارنا فقد كنت أميل بجسمي النحيل إلى الاتجاه الآخر، وأنا أتوقع أن يخرج إليَّ هذا المخلوق من قبوه في أية لحظة. كانت لحظة بطول تاريخ البشرية كله، وعندما وصلت إلى بوابة حوش دارنا انطلق نحوي ذلك المخلوق العجيب بسرعة مذهلة... فأطلقت صرخة مدوية وهربت نحو نبع عين القرية الذي تحادده مقبرة من جهة الجنوب، ولقد أطلقت ساقي للرياح الشرقية الباردة، وأنا أحس بأن أنفاس هذا المخلوق عند رقبتي من الخلف، ولقد انطلقت كل كلاب القرية التي اشتد عويلها ونباحها خلفي... وركضت وكان والدي، رحمه الله، يركض خلفي ويناديني بأعلى صوته فاختلط الحابل بالنابل، وامتزج صوت نباح الكلاب بأصوات أهل القرية وبزمجرة الرياح الشرقية الباردة وبدخان "المزابل"... ولأنني لم أعد أستطع مواصلة الركض فقد توقفت وجسمي يرتعش كقصلة في مهب الريح... ثم بعد أن التقطت أنفاسي وأعادني والدي معه محمولاً ومضموماً إلى صدره اكتشفت أن إحدى عنزات قطيعنا المزروب في حوش دارنا هي التي اعترضت طريقي وليس ذلك الحيوان الأسطوري المتوحش.
أخر كلام
من الذاكرة : «القَبْو»
14-07-2013