زمن دولة الفاكهاني

نشر في 28-06-2013 | 00:02
آخر تحديث 28-06-2013 | 00:02
No Image Caption
{دولة الفاكهاني}، تعبير تردد كثيراً على ألسنة الباحثين والكتاب والشعراء. والفاكهاني لمن لا يعرفه، هو ذلك الحيّ الذي لا تزيد مساحته على كيلو متر مربع، يقع بين جسر الكولا ومخيمي صبرا وشاتيلا في بيروت، وتقع في قلبه جامعة بيروت العربية.
وكان الفاكهاني مركز القيادة الفلسطينية العرفاتية ومكاتب جميع قيادات الفصائل الفلسطينية ومراكز الإعلام الفلسطينية والإذاعة الفلسطينية ومركز التخطيط، وبيوت القيادة جميعهم تقريباً، والمكان «المفضل» للقصف الإسرائيلي، خصوصاً عام 1982. وعلى مدى السنوات القليلة الماضية، لوحظ أن كثيرين من المثقفين والشعراء والكتاب العرب واللبنانيين، أصدروا كتباً أو كتبوا مقالات عن زمن دولة الفاكهاني وثقافتها وعن مرحلة بارزة في تاريخ بيروت وهي الاجتياح الإسرائيلي عام 1982.
«دولة الفاكهاني» في بيروت، أو ذلك المربع الأمني للمسلحين الفلسطينيين وقاداتهم، كان مقصداً لكثير من المثقفين والشعراء المناصرين للقضية الفلسطينية، ومع مرور السنين بات الحي نفسه علامة فارقة في الكتابات التي تتناول بيروت، كأن هذه المنطقة كانت أقوى ثقافياً من شارع الحمرا والمناطق الأخرى. ربما هي أكثر حضوراً في خردة الذاكرة، ذلك لأن كثيرين من روادها كانوا في مقتبل العمر حين أتوا من أصقاع البلدان العربية وحتى الأجنبية، طامحين للمشروع الثقافي وحلم القضية الفلسطينية. يمكن للقارئ من خلال ما كتب عن بيروت 1982 والفاكهاني، أن يلاحظ هذا الكم من الشعراء والمثقفين والكتّاب الفلسطينيين والسوريين والعراقيين والأردنيين واللبنانيين والمصريين الذين كانوا في العاصمة اللبنانية وفي الفاكهاني إبّان الاجتياح الإسرائيلي. من بين هؤلاء طاهر العدوان ونبيل عمرو ورؤوف مسعد وغسان زقطان وزكريا محمد وسعدي يوسف وهاشم شفيق ورشاد أبو شاور وعماد الرحايمة وفيصل حوراني وجميل هلال وميشال النمري وسليم بركات وحيدر حيدر ونوري الجراح وشاكر لعيبي وعدلي فخري وزين العابدين فؤاد وناجي العلي ورسمي أبو علي.

 صغيرة بحجم راحة اليد

يعود الشاعر الأردني أمجد ناصر، في كتابه «بيروت صغيرة بحجم راحة اليد»، ليطلّ على بيروت أيام «جمهورية الفاكهاني» الفلسطينية والاجتياح الإسرائيلي عام 1982.

أمجد ناصر أحد الذين عاشوا الحصار من داخله، ينشر ليسجّل اليوميات بوقائعها الحية كما هي. وقيمة هذه اليوميات بحسب ناصر {تكمن في عدم ادعائها وفي احتفاظها بطاقة الوهلة الأولى. ليس هناك بحث عن بطولة ما. الأشخاص الذين يتجولون في اليوميات أبسط بكثير من حيلة البطولة وبلاغتها، وأكثر قرباً من إنسانيتهم. حتى أولئك الذين سيقتلون في ما بعد في مدن بعيدة في صباحات صافية واصلوا حياتهم في اليوميات بحيوية من لا يعرف}.

تستمرّ يوميّات ناصر في رصد كثير من التّفاصيل التي عاشتها بيروت، لتتوقّف عند المحطّة الأخيرة: الخروج، وذلك حين غادر المقاتلون الفلسطينيون المدينة، باتّجاه السّفن التي أقلّتهم إلى المنافي الجديدة. في هذه المحطّة، يصفّ ناصر مشاهد الرحيل قائلاً: «أبطال الملحمة يتبعثرون في أوديسا جديدة، بعدما أوقفوا أعتى قوّة عسكرية في الشرق الأوسط على أبواب بيروت المقاتلة. بعدما انتصروا يُكافأون بالتّشتّت والبعثرة بالنّفي».

بعد 14 عاماً على مغادرته بيروت، تحديداً في عام 1996، يعود أمجد ناصر إليها ليراها ثانيةً ببحرها وجبلها. يكتب عنها في الجزء الأخير من الكتاب، وخلال جلوسه في مقهى زائل ينخرط في حوار مع نفسه: {عودتي إلى بيروت هي عودة زائر فرد، بينما لم يكن وجودي فيها كذلك؟ يومها كنت جزءاً من حالة. كنت مواطناً. عالم انتهى تماماً: بناسه وأعلامه وشاراته وأسلحته وكتبه وتجاوزاته ومعجمه وأحلامه. عالم اندثر دون أن يترك أطلالاً. فنحن أطلاله، ووشمه الحائل}.

قبل أمجد ناصر كان الشاعر العراقي شاكر لعيبي قد رسم صورة ليوميات الثقافة والمثقفين في حي الفاكهاني وبيروت في كتاب {حسرة الياقوت في حصار بيروت}، والروائي العراقي صموئيل شمعون ستحضر في بعض كتاباته مرحلة الفاكهاني، بأبنيتها وناسها، بأحاديثهم وقعقعة سلاحهم، وفي الرواية تسجيل لأحداث تاريخية كادت أن تنسى. التنقل من بيروت إلى طرابلس في الشمال اللبناني عن طريق قبرص، والقرصنة الإسرائيلية في عرض البحر، قد خبرها الكاتب حين نقل كمية من الدم تبرعت بها النرويج أو الدنمارك. الاشتباكات الداخلية بين الفصائل المختلفة. جوازات السفر المزورة. ثم الغارة الإسرائيلية على الفاكهاني عام 1981، وهي مجزرة قتل فيها صديقه الفرنسي فرنسوا، الذي عمل مساعد طبيب مع المقاومة الفلسطينية. ومن بيروت ارتحل إلى قبرص ثم تونس. ويستمر صموئيل يؤرخ لأحداث جرت هناك.  

المحطة الثانية

في مقال له نشره على صفحته على {فيسبوك}، يروي الكاتب العراقي حسين موزاني: {عندما قَدِمت إلى بيروت قبل ثلاثين عاماً ونيف كانت محلة الفاكهاني محطتي الثانية بعد شارع الحمرا. وكنت اشتغل آنذاك في قسم السينما التابع لـ{الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين} عارضاً للأفلام، فكنت أطوف بآلة عرض الأفلام الوثائقية والروائية التي كنت أستعيرها من المراكز الثقافية، وبالأخصّ المركز الثقافي السوفياتي، (...). واليوم عدت إلى هذا المكان الأليف الذي أشعر بحنين غامض إليه وإلى معالمه التي اندثر معظمها}. يضيف بعد زيارته بيروت عام 2009: {لا حواجز مسلحةً هنا ولا مفارز خلف جسر الكولا، حيث تبدأ {جمهورية الفاكهاني}. فقد اختفى السلاح والمسلحون واختفى معهم ذلك التركيب الاجتماعي والثقافي العجيب المتماسك والمستقل بذاته. فكانت مساحة الحريّة المتاحة لنا واسعة للغاية، فلم نكن نخشى أحداً، بل إننا كنّا فعلاَ أحراراً ومتمردين، وكنّا من فرط اعتزازنا بحريتنا واستقلالنا لا نلقي التحيّة أحياناً على المسوؤلين الكبار، وننتقدهم علناً. ولا أعتقد بأنّ تاريخ العرب الحديث شهد ظاهرةً تماثل تلك الثورة الثقافية التي تأسست في بيروت الغربية والتي شكّلت خطراً فعلياً على منظومة كاملة من القيم المتخلفة الراسخة في المجمتع العربي}. يتابع: {في حانة التوليدو، حيث كنت ألتقي زماناً بالشعراء سعدي يوسف وجليل حيدر وشريف الربيعي وآدم حاتم وعلى فودة وغيلان. وقد شهدت هذه الحانة الصغيرة ولادة ظاهرة ثقافية جديدة في الأدب العربي الحديث، وهي ظاهرة أدباء الرصيف التي لم يتعرّض لها النقد بصورة وافية. وذلك هو مقهى أبو علي، {كنافة أبو علي} التي كنّا نجتمع فيها ظهراً، لنكتب قصصنا وقصائدنا}.

مقهى أم نبيل

{رصيف 81} فصل مهم من فصوله مرحلة الفاكهاني، يقول الشاعر رسمي أبو علي: {من مقهى أم نبيل في الفاكهاني أصدرنا العدد الأول من مجلة {رصيف 81}.

وقبلها كان أصدر مع الروائي التونسي الصافي سعيد بياناً مطبوعاً بشكل أنيق وزّع مجاناً في الفاكهاني حمل عنواناً غير مألوف وبعيداً عن استخدام اللغة السياسية والثورية التي كانت سائدة آنذاك. كان اسم البيان «المانفستو الجنائزي رقم صفر»، لأجل الإنسان اللاعب، استوحيا مضمونه المتعلق باللعب من الحلم الشيوعي الذي جسّده كارل ماركس، إذ عادا إلى ماركس الشاعر، والبيان نفسه فكان هجوماً كاسحاً وشاملاً على المؤسسة عموماً، إذ اعتبر رسمي أبو علي والصافي سعيد أن «المؤسسة هي الجهاز البيروقراطي الذي أخذ بابتلاع الثورة تدريجاً حيث رأينا أن الثورة اختزلت في مؤسسات، وأن هذه المؤسسات اختزلت في رجل بعينه اسمه ياسر عرفات. وما زاد الأمر غرابة أن لغة المانيفستو كانت لغة يسارية متقدمة مستوحاة من أدبيات اللغة اليسارية الفرنسية السائدة آنذاك والتي كان الصافي سعيد على اطلاع جيد عليها، فقد أمضى عدداً من السنوات في باريس كان خلالها على اتصال بأحد الرموز اليسارية العربية آنذاك، وهو العفيف الأخضر الذي كان له بعض المساهمات في بعض الفضائيات، ومن بينها «الجزيرة» قبل أن يتم إسدال الستار عليه».

المانيفستو

كانت لغة المانيفستو لغة جديدة وغير مألوفة في ثقافة الفاكهاني السياسية فقد كان اليسار لا يزال يستخدم تلك اللغة الخشبية المتحررة من الزمن الستاليني.

وبسبب غرابة الأمر كله، فقد اعتقد البعض أن الموضوع لا بد من أن يكون مزحة أو {نهفة}. يقول أبو علي: {أنني كنت معروفاً أنني غالباً ما أمزج الجد بالهزل لتفادي ردود أفعال بعض الرؤوس الحامية الجاهلة، التي كانت تعج بهم الفاكهاني آنذاك}.

إذاً، كان المانيفستو الجنائزي المقدمة النظرية للرصيف والذي ظهر على شكل مجلة حملت عنوان {رصيف 81} في مثل هذه الأيام في عام 1981 في بيروت - الفاكهاني..

بمنأى عن سلبيات جمهورية الفاكهاني في السياسة والأمن في الزمن الفلسطيني والقتال الأسود في تاريخ لبنان، فهي أتت في زمن شكلت بيروت فيه ثورة ثقافية. كانت الفاكهاني نقطة انطلاق لكثير من الكتاب والشعراء والسينمائيين، ولم تكن مجرد مقر للعرفاتية. المشكلة اليوم أن لبنان غدا كله مربعات أمنية سوادها أقوى من كل شيء، ونموذجها «حزب الله» وأحمد الأسير.

back to top