في عالم من التقنيات المتطورة قد تبدو كتل الفحم القذرة السوداء أمراً مستغرباً وكأنه يأتي من عوالم عجيبة مشكلاً بذلك مفارقة تاريخية في حد ذاتها، ورغم ذلك، فإن الفحم لا يعتبر مادة من الماضي السحيق لأنه يستخدم حالياً في أجهزة "الآي باد" والتلفاز والسيارات الكهربائية، كما تنتج محطات الطاقة العاملة بالفحم ثلثي الطاقة الكهربائية في العالم وهي في ازدياد. وفي ظل تضاعف إنتاج العالم من الكهرباء خلال العقد الماضي وصلت حصة الفحم إلى الثلثين من تلك الزيادة، ولدى بلوغه تلك المعدلات من المقرر أن يتنافس الفحم مع النفط كأكبر مصدر للطاقة الأولية في العالم في غضون السنوات الخمس المقبلة، في وقت لم يكن فيه الفحم حتى عام 2001 يمثل في أهميته أكثر من نصف الأهمية التي يحظاها النفط.

Ad

يعود العامل الرئيسي لتلك الزيادات الكبيرة في استهلاك الفحم عالمياً، إلى التعطش الشديد إلى الطاقة في الصين التي تجاوزت الولايات المتحدة في سنة 2011 لتحل محلها كأضخم منتج للكهرباء في العالم. وتقول إحصاءات وكالة الطاقة الدولية- التي تمثل نادي الدول الثرية المستهلكة للطاقة- إن الطلب الصيني على الفحم كان في سنة 2001 بلغ ما يعادل نحو 600 مليون طن من النفط المكافئ (25 إكساجولز)، لكنه تضاعف بـ3 أمثاله بحلول سنة 2011، أي أن استهلاك الصين من الفحم لإنتاج الكهرباء قفز من ثلثي الطاقة التي تحصل عليها أميركا من النفط إلى مثلي تلك الكمية. والمعروف حالياً أن صناعة الفحم المحلية في الصين تنتج كمية من الطاقة الأولية أكثر مما ينتجه نفط الشرق الأوسط.

وفي الوقت ذاته، تتوق دول نامية أخرى للحصول على الفحم، ففي الهند تطلب إنتاج 650 تيراواط/ ساعة من الكهرباء في سنة 2010 إلى ما يعادل 311 مليون طن من النفط المكافئ، كما أن الطلب على الفحم في قطاع توليد الطاقة ينمو بما يقارب 6 في المئة سنوياً... وحسب تقديرات الوكالة الدولية للطاقة، فإن الهند يمكن أن تتجاوز أميركا كأكبر مستهلك للفحم في العالم بحلول عام 2017.

ولكن إذا لم تعد أميركا مهيمنة على هذا الميدان، كما كانت الحال في الماضي، فإن ما يحدث في هذه الصناعة يمكن أن يطرأ عليه تغيرات بعيدة المدى... وفي الوقت الراهن لم يعد الفحم مادة مفضلة في أميركا.

جاذبية الغاز

ولعل أهم مزايا الفحم في الدول النامية تتمثل برخص ثمنه وتوافره على نطاق واسع، وهي عوامل تعتبر أكثر أهمية من الضرر الذي يلحقه بالناس الذين يعيشون في المناطق القريبة من مواقع إحراقه، إذ إنه يطلق ذرات ضارة بصحة الإنسان فضلاً إن الأضرار التي تلحق بكوكب الأرض بصورة عامة، حيث يتسبب احتراق الفحم في إطلاق كميات أكبر من ثاني أكسيد الكربون، وهو أكثر الغازات المسببة للاحتباس الحراري.

أما في الدول الغنية، فيمكننا أن نتوقع حدوث تحول التوازن بين التكلفة والمنفعة ليتجه بالمسار إلى الجانب الآخر فيتراجع استخدام الفحم، غير أن الأمور ليست بهذه البساطة تماماً.

الواقع يشير إلى أن الفحم يستخدم في الولايات المتحدة بقدر أقل وبشكل متزايد، لكن لا يعود ذلك بسبب حرص واشنطن على تبني سياسات للحفاظ على المناخ الذي لا يلقى سوى اهتمام نسبي فيها. وعلى النقيض تسير الأمور في أوروبا، التي تود دائماً الظهور كبقعة رائدة على المستوى العالمي للحرص على قضايا المناخ، فإنها تتجه إلى استهلاك وحرق المزيد والمزيد من الفحم.

ومثل بقية قطاعات الطاقة في الولايات المتحدة، فقد تأثرت تجارة الفحم فيها ببروز أهمية استخراج الغاز الصخري، المتوافر الآن بكميات غير متوقعة وبأسعار غير مسبوقة، فقد هبطت أسعاره في شهر أبريل من سنة 2012 إلى أقل من دولارين لكل مليون وحدة حرارية بريطانية BTU (أي ما يعادل 7 دولارات لكل ميغاواط/ ساعة). وقد أدى ذلك إلى جعل الغاز جذاباً بصورة متصاعدة في عيون شركات الطاقة التي أخذت تتحول عن الفحم بأعداد متزايدة.

نقطة الذروة

لدى بلوغه نقطة الذروة في سنة 1988، كان الفحم ينتج 60 في المئة من إجمالي الطاقة الكهربائية المولدة في الولايات المتحدة. وحتى في سنة 2010 عندما انطلقت فورة استخراج الغاز الصخري بقوة، كان الفحم يشكل 42 فقط من كمية الكهرباء المولدة. وبحلول منتصف سنة 2012 تساوى الغاز والفحم بصورة تقريبية وأصبح كل منهما يساهم بحوالي ثلث الطاقة المولدة في أميركا.

هناك سببان وراء الاعتقاد بأن التحول عن الفحم سيمثل ظاهرة طويلة الأجل ولن تكون حدثاً طارئاً؛ الأول، هو استمرار تدفق الغاز الجديد مع تواصل تدني تكلفة إنتاجه بصفة مستمرة. وعلى الرغم من أن السعر بدأ يرتفع عن مستوياته الدنيا السابقة (وصل السعر الآن الى 3.43 دولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانية BTU)، فإن من غير المحتمل يكلف أكثر من الفحم لفترة طويلة مقبلة من الزمن، كما سيكون من السهل تماماً استخدام مزيد من الغاز من دون الحاجة إلى بناء محطات طاقة جديدة، فضلاً عن أن نحو نصف طاقة أميركا المتولدة من الغاز يتم إنتاجها في محطات تعمل بتوربينات الغاز ذات الدورة المشتركة (CCGT)، المعروف أن الطاقة المستغلة من تلك المحطات في ازدياد مطرد، لكنها لا تزال تمثل نسبة 50 في المئة فقط من الطاقة الإجمالية، ويمكن زيادة استغلالها.

السبب الآخر الذي يدفع إلى الظن باستمرار التحول عن استخدام الفحم يتمثل بأن مصانع الغاز تستطيع تلبية المعايير والاشتراطات البيئية بسهولة أكبر، وفي ظل الولاية الثانية لإدارة أوباما يمكن لتلك الشروط الاستمرار أو أن يتسع نطاقها. وتبدو جماعات المصالح المرتبطة بصناعة الفحم أكثر ضعفاً بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة. وكان ميت رومني المرشح الجمهوري، الذي هاجم بصورة منتظمة "حرب أوباما ضد الفحم"، قد حصل على دعم كامل من تلك الجماعات، غير أن ذلك لم يمكنه من تغير النتائج لمصلحته في ولايات متأرجحة مثل فيرجينيا وأوهايو.

حبس الكربون

وحسب مقتضيات الوضع الراهن، ستضطر مصانع الطاقة في الولايات المتحدة إلى التقيد بالقوانين الراهنة والعاملة التي تحكم انبعاثات الزئبق وغيره من المواد السامة حتى حلول عام 2015. كما أن أي أحكام قضائية داعية إلى فرض معايير بيئية جديدة للرقابة على انبعاثات ثاني أكسيد الكبريت وأكاسيد النيتروجين، ربما تؤخر صدور هذه المعايير لكنها لن تبطلها بصورة كاملة. كما أن القواعد البيئية التي تضمنها "قانون الهواء النظيف" لا تتطلب موافقة من الكونغرس. وإذا قرر الرئيس أوباما وضع سياسة بيئية حسبما يشاء ويرغب، فإن صناعة الفحم ستتعرض لمصاعب كبيرة.

كانت "وكالة حماية البيئة" الأميركية قد اقترحت في وقت سابق فرض قيود على انبعاثات الكربون من شأنها بشكل عملي حظر المصانع التي تعمل بالفحم بعد سنة 2013 ما لم تكن مجهزة بتقنية "حبس وتخزين الكربون" (CCS) التي لم تجهز أو تعمل حتى الآن وفق الأسس التجارية، لذلك فإن المنشآت التي جرى التخطيط لإنشائها في كاليفورنيا وتكساس قد تغير تلك القاعدة، وحتى من دون توافر تقنيات حبس وتخزين الكربون (CCS)، فإن محطات توليد الطاقة الحديثة العاملة بالفحم، رغم أنها أكثر فعالية من المصانع القديمة ويمكن جعلها أكثر نظافة الى حد كبير، فإنها أكثر تكلفة من تلك التي تستخدم التقنية القديمة، ويصل سعرها إلى نحو مثلي سعر محطات التوليد العاملة بالغاز بنفس السعة الإنتاجية. كما يمكن تشييد محطة توليد كهرباء تعمل بالغاز خلال فترة من سنتين إلى أربع سنوات مقابل 4 إلى 8 سنوات في حالة محطات الفحم، وهو ما يعطي المؤسسات التي تدير المرافق المزيد من المرونة لزيادة سعتها الإنتاجية.

مصير متقلب

وتقول شركة "نافيغانت" الاستشارية المتخصصة في شؤون توليد الطاقة، إن مثل هذه التطورات تمثل نذير شؤم بالنسبة إلى محطات توليد الطاقة العاملة بالفحم في الولايات المتحدة، فوجود عنصري الغاز الرخيص والتكلفة المرتفعة للاشتراطات البيئية سوياً، يعني أن 50 غيغاواط من الطاقة المولدة عن طريق الفحم- التي تصل إلى سدس الطاقة الإجمالية المتولدة- يمكن أن تتعرض للإغلاق بحلول سنة 2017، بينما تقدر شركات أخرى هذا الرقم عند مستويات أعلى.

وتعتبر هذه التطورات مشكلة أيضا بالنسبة إلى مناجم الفحم الأميركية، فمن المتوقع أن يكون إنتاج الفحم في عام 2012 قد تراجع نحو 100 مليون طن مقارنة مع 2011، أو ما يقارب 10 في المئة من حجم الإنتاج الإجمالي للفحم في الولايات المتحدة. غير أن زيادة الصادرات خففت من وقع الضربة، حيث ارتفعت بما يصل إلى الربع في النصف الأول من سنة 2012 لتبلغ 66 مليون طن، ثم إن البنية التحتية في هذه الصناعة ليست مجهزة للتصدير- حيث من الصعب شحن الفحم من وايومنغ إلى سفن متجهة الى الصين- ويرى محللون أن تلك الأوضاع لو عولجت، فإن الصادرات يمكن أن تصل إلى 200 مليون طن سنوياً. وفي غضون ذلك عمدت شركات التعدين إلى تسريح عمال من بعض مواقعها الإنتاجية، والتوقف عن الحفر خصوصاً في المناطق التي تضم مناجم أقل فعالية مثل غرب فيرجينيا وكنتاكي.

من المتوقع أن يستمر هبوط الفحم على المدى المنظور، لأن محطات الطاقة التي تعمل في الوقت الراهن كانت قد شيدت لتستمر أمداً طويلاً، وما دامت أقدم محطة توليد كهرباء عاملة بالفحم قد بنيت في الثلاثينيات من القرن الماضي، فإنها حتى إذا لم تصدر قوانين جديدة لإرغام مثل تلك المحطات على التوقف، فإنها ستتقاعد وتخرج من الإنتاج تلقائيا وبشكل تدريجي.

وتتوقع مجموعة "براتل" الاستشارية أنه بحلول عام 2017 وما بعده، أن يطرأ استقرار على استخدام الفحم من جديد بعد أن ترتفع أسعار الغاز نتيجة ازدياد الطلب عليه لتصبح مقاربة من أسعار الفحم. وتشير المجموعة إلى أن الفحم ربما يشهد ضعفاً وانحساراً في الولايات المتحدة، لكنه لا يزال براقاً في أماكن أخرى!