ذكر بيل كلينتون الأسبوع الماضي وراء أبواب موصدة إنما بلغة ولهجة ضمنتا وصول ملاحظاته إلى العالم بأسره أن الرئيس الأميركي باراك أوباما يخاطر بالظهور بمظهر "الجبان" و"الغبي" بتخليه عن السياسة، وبحثه عن حلول مثالية تحول دون اتخاذه الخطوات الضرورية لوقف المجازر التي تُرتكب في سورية.

Ad

بعد أيام، ذكر الجنرال كيث ألكسندر، الرجل الأبرز في وكالة الأمن القومي، ومجموعة من كبار محاربي الإرهاب في الإدارة الأميركية في جلسة أمام لجنة تابعة للكونغرس في 18 يونيو أن التدابير الشاملة غير المسبوقة، التي اتخذتها الحكومة الأميركية بغية جمع بيانات هاتفية، واتصالات عبر البريد الإلكتروني، وسجلات من الإنترنت، أدت إلى تفادي أكثر من 50 خطراً إرهابياً واجهتها الولايات المتحدة.

قد يبدو هذان التصريحان للوهلة الأولى منفصلَين، لكنهما يشيران كلاهما إلى تبدل طرأ على صناعة السياسة الأميركية في السنوات التي تلت اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر، فقد عبرت البلاد الحد الدقيق الفاصل بين الأمن القومي وغياب الأمن القومي. نتيجة لذلك بات الخوف اليوم، على ما يبدو، الحافز الرئيس وراء سياسات البلاد، لا الرؤية والوعي الذاتي والشجاعة، التي كانت تشكل التركيبة المناسبة لحماية مصالح الولايات المتحدة والترويج لها دولياً.

لا يعني ذلك أن الجنود الأميركيين على أرض المعركة أو رجال الأمن الأميركيين أو أعضاء أجهزة الاستخبارات لا يعربون فردياً أو جماعياً عن شجاعة كبيرة، كذلك لا يعني أن الخوف لا يؤدي دوراً في صوغ سياسات صحيحة. فتقييم المخاطر السليم وإدارتها بفاعلية يُعتبران من أسس تحديد المقاربات بنجاح، تماماً كما أن الشجاعة المبالغ فيها والثقة المفرطة بالنفس قد تكونان مميتتين.

ولكن خلال عهد جورج بوش الابن وفي مناسبات عدة خلال عهد أوباما، لاحظنا على مستويات رفيعة تطبيق سياسات ناتجة من خوفنا من مخاطر مبالغ فيها وسيناريوهات سيئة، ومن خوف السياسيين (وهذا مقلق حقاً، كما ألمح كلينتون) من أنهم قد يعانون خسائر كبير في استطلاعات الرأي أو صناديق الاقتراع بسبب خطوة خاطئة قد يقدمون عليها أو عملاً لا يلقى شعبية واسعة.

من غزو العراق و"القانون الوطني" إلى تبني أساليب التعذيب، وتوسيع برامج المراقبة المحلية، والإخفاق في التدخل باكراً في سورية، والتبدّل المستمر في "الخطوط الحمراء" في ذلك البلد أو إيران، والإخفاقات وغياب المتابعة في ليبيا، والفشل في التصدي لانتهاكات "الحلفاء" في أفغانستان وباكستان والعراق وانتهاكات الخصوم مثل روسيا أو إيران، في كل هذه لفّ الخوف وجهات النظر الأميركية، برر المبالغة في ردود الفعل أو الامتناع عن اتخاذ أي خطوات، ومكّن الولايات المتحدة من تحويل السياسات السيئة إلى سياسات حذرة دوماً طوال أكثر من عقد.

ولكن مع بروز المخاطر النازية والسوفياتية التي هددت وجودها، واجهت الولايات المتحدة الهلاك بكل جرأة ولم يرف لها جفن، فقد أدركت أن الثبات، والأهداف الواضحة، والاستعداد للمخاطرة سياسياً وعسكرياً كانت أساسية في الدفاع عن نمط الحياة الأميركي. لا شك أن الولايات المتحدة سمحت لخوفها خلال أوقات معينة من هاتين الحقبتَين بأن يحدد خطواتها. إلا أنها كانت في كل مرة (من معسكرات احتجاز الأميركيين المتحدرين من أصل ياباني وإحراق دريسدن، وهيروشيما، وناغازاكي إلى المكارثية وحسابات فيتنام الخاطئة) لا تتردد في اتخاذ خطوات قد تسيء إلى مكانتها الوطنية ولا تزال مثار جدل حتى اليوم.

أما اليوم، فوقعت الولايات المتحدة في بعض الحالات (كما حدث مع تمادي وكالات المراقبة الأميركية) في الشرك عينه الذي أدى إلى إنشاء معسكرات احتجاز الأميركيين المتحدرين من أصل ياباني. فبالغت في عرض المخاطر إلى حدّ أرغمها على التنازل عن قيمها وتبرير اتخاذ خطوات شاملة كان من الممكن تفاديها باعتماد مقاربات أخرى، سواء كانت جمع كمية أكبر من المعلومات (تحقيقات الشرطة التقليدية الفاعلة) أو القيام بالمزيد من الأعمال المكتبية (مثل اتباع الإجراءات القانونية والإرشادات المتوافرة). علاوة على ذلك، توافرت لها على الأرجح خيارات استثمار المزيد من القوة العاملة، أو كان من الممكن للمبادرات المبرمجة الجديدة أن تحدّ من المخاطر الحقيقية القائمة بطرق فاعلة ومنظمة لا تنتهك القيم، التي تُدافع عنها الولايات المتحدة نظرياً.

لا بد من الإشارة أيضاً إلى أن بعض الحسابات السياسية دفعت بالتأكيد فريق أوباما إلى تبني برامج المراقبة التي اتُّبعت خلال عهد بوش وتوسيعها: الخوف من أنهم سيتحملون ذنباً أكبر في حال وقع اعتداء ما وكانت هذه البرامج قد أوقفت.

ولكن كما أشار كلينتون في ملاحظاته أمام "معهد ماكين"، يحمل الخوف من تحمل الذنب مخاطره الخاصة. أخفقت الإدارة حتى اليوم في حمل حلفائها بنجاح على اتخاذ الخطوات اللازمة لاحتواء الكارثة الإنسانية في سورية وإضعاف نظام بشار الأسد لأنها لاحظت غياب معارضة واضحة، ومتماسكة، وموثوق بها تستطيع الولايات المتحدة التحالف معها. تكمن المفارقة في أن هذا موقف الولايات المتحدة في بلد يحدّ العراق ويُعتبر في المنطقة ذاتها كما أفغانستان وليبيا (حيث راهنت الولايات المتحدة على أكثر أنواع "الأصدقاء الأعداء" إثارة للشك). علاوة على ذلك، ينطوي قرار الوقوف على الهامش، في حال امتدت هذه الأزمة على نحو خطير إلى الأردن، ولبنان، والعراق، وتركيا، مخاطر كبيرة تهدد أوباما. باختصار، لا يلغي غياب الأجوبة السهلة الحاجة إلى جواب: طريقة فاعلة لاحتواء المخاطر الحقيقية التي تهدد المصالح الوطنية بسبب انتشار الفوضى في سورية، وامتدادها في المنطقة، واحتمال تشكيل حكومة مستقبلية في دمشق تكون معادية لواشنطن (التي تبدو كما لو أنها تشجع هذه الفوضى)، وإخفاق الولايات المتحدة في استغلال فرصة للحدّ بنجاح من النفوذ الإيراني في جزء بالغ الأهمية من الشرق الأوسط.

أعلن وزير الخارجية السابق كولن باول ذات مرة بشأنه : "تخرّبه، تتكفّل به". ولكن كان يجب أن يضيف: إذا كان الامتناع عن اتخاذ أي خطوات يؤدي إلى مأساة أكبر، فعليك التكفّل بذلك أيضاً. وكما أشار قليلون بإقناع يُضاهي براعة سامانثا باور، سفيرة الولايات المتحدة الجديدة إلى الأمم المتحدة ومؤلفة كتاب A Problem from Hell (أحد أهم عشرة كتب قرأتها عن العلاقات الدولية)، نواجه قرناً من الإبادات يُعتبر وقوفنا على الهامش أحد أسبابه، ويجب أن يؤلم هذا ضميرنا، إن لم نكن قد شعرنا بعد بوخز الضمير. أشار كلينتون خلال خطابه في معهد ماكين إلى أن هذه التفاصيل لا تزال تثقل ضميره، بما أنه أخفق في اتخاذ الخطوات اللازمة في رواندا. وننتظر بفارغ الصبر لنرى طريقة معالجة أوباما هذه النقطة عندما يزور إفريقيا قريباً. الحذر مفهوم يطرحه مَن يخشون القيام بالقليل أو الكثير، ولكن يجب ألا يعمينا عما يحدث حقاً، فقد بات شعورنا بعدم الأمان، لا أهدافنا، هو ما يؤدي الدور الأكبر غالباً في صوغ خطواتنا. ولكن هل هذا خلل مؤقت أو عارض طويل الأمد يشير إلى انهيار الأمم التي فقدت الثقة بنفسها؟ علينا أن ننتظر لنرى.

ديفيد روثكوبف | David Rothkopf