يسأل فردريك معتوق في كتابه {المارد الآسيوي يسيطر}: {لماذا يسيطر الغرب بهذه القوة على العالم منذ خمسة قرون وحتى اليوم؟ وما هي مرتكزات السيرة الغربية؟}. للإجابة، اعتمد المؤلف منظوراً سوسيو- معرفياً، يتابع في طرائق التفكير والتخطيط والتنفيذ، أي في المرتكزات الذهنية، مكامن قوة الغرب. ووضع لذلك، مفهوماً جديداً ساعده كثيراً في فهم الديناميات الكامنة في المشروع الغربي، هو مفهوم المحركات الذهنية التي حصرها بخمسة: الهيمنة والمعرفة والربح والبوليميك والتنظيم. كذلك عالج المؤلف موضوع السيطرة في مجاله الشرقي، في الحضارات القديمة، أي مرتكزات السيطرة الشرقية. وفي هذا العمل أسقط عمداً البوليميك باعتباره محركاً ذهنياً خاصاً بالتجربة الغربية، واستبدله بمحرك الدين، الأكثر ملاءمة للموضوع في شقه الجديد. لكن النتيجة كانت في الشق الثاني أنه اقتصر على التاريخ الماضي ولم يلامس الأزمنة المعاصرة. علاوة على أن التحليل بيّن أن تجارب السيطرة القديمة كلها، عند الفراعنة والصينيين، والهنود والعرب والعثمانيين، جاءت مبتورة، إذ إنها عمدت على تفعيل محركين أو ثلاثة على أبعد تقدير، فتعثر المشروع لعدم بلوغ مرحلة الامتياز التي بلغتها الحضارة الغربية.

Ad

استكمالاً لهذا المشروع، يتوجه المؤلف في الكتاب إلى الحاضر، من بابه الآسيوي، حيث ينقل تحليله إلى أربعة بلدان تحديداً، هي اليابان وكوريا وسنغافورة والصين، ليسأل: لماذا يسيطر المارد الآسيوي حالياً على الاقتصاد العالمي؟ للإجابة، استخدم المفهوم العملاني، محاولاً من خلاله فهم المكامن الذهنية في التفوق الاقتصادي الآسيوي. فتبين له أن وقود المحركات الذهنية الآسيوية مستمد من الإرث الكونفوشي الفلسفي، المعاد تأهيله في ضوء مقتضيات الحاضر، وعلى قاعدة العقلانية المرنة. إذ أضحى المشهد العام أكثر وضوحاً، وتأكد له أن عمليات التأخر والتقدم في التجارب العالمية كلها تعود إلى استعدادات ذهنية، موجودة أصلاً عند الجميع، يتم تفعيلها في بلدان أو أقاليم معينة، أو شلها في بلدان أو مناطق أخرى من العالم. أما من يفعِّل ومن لا يفعِّل؟ ومن له مصلحة في التفعيل أو في عدمه؟ وإلام يستند في عملية التفعيل أو التعطيل الذهني هذه؟ فكلها مسائل تخضع للدرس والتحليل قبل الإجابة.

يتساءل معتوق حول أسباب ومرتكزات نهوض هذه الدول، وكيف تمكنت من النهوض على رجليها بعدما كانت مرمية على الأرض؟ وعلام اعتمدت في عملية إعادة بناء نفسها؟ وما هو الدور الذي قامت به منظوماتها الفكرية في هذا المشروع الأكبر؟ ولماذا حصل الأمر في عدد من البلدان الآسيوية على نحو أساسي؟ في محاولته الإجابة عن هذه الأسئلة، يتبين للمؤلف أن السبب الأول يعود إلى اعتناق هذه الدول كلها نظرية الدول الحديثة، الغربية المنشأ، مع تلاوين محلية مختلفة. فالقطيعة الابيستمولوجية (المعرفية) مع دولة المُلك ودولة العصبية الخلدونية شكلت سر التحول، ثم شر النجاح والتفوق الأول. ويضيف معتوق، أن الانتقال إلى الدولة الحديثة جاء مفروضاً في اليابان، وقسرياً في كوريا، وخيارياً في سنغافورة، وطوعياً في الصين، لكن رغم ذلك فإن هذا الانتقال جاء بناءً لقراءة عقلانية للواقع الذاتي والمحلي لكل بلد من هذه البلدان. وهذه القراءة العقلانية، لا العصبية، كانت أصعب ما عاشته البلدان التي تحولت بفضل هذا الانتقال الذهني إلى دول حديثة.

مواجهة

يتابع معتوق، أن الطلاق مع دولة العصبية ودولة الملك سمح لاحقاً لكل دولة من هذه الدول الآسيوية أن تقيم استراتيجية مواجهة صامتة وذكية وفاعلة، على أساس لعبة شطرنج أعيد سن بعض مبادئها في ضوء المعطيات المعرفية الخاصة بهذه الدول. فارتسمت تدريجاً ملامح لعبة شطرنج أسيوية تواجه بها هذه البلدان اليوم الغرب وتفاجئه بمهاراتها وقدرتها على لعب لعبة الهزائم بشكل معكوس، لكن بشكل محدود حتى الآن، بانتظار ما سيكشفه المستقبل.

تقوم لعبة الشطرنج الأسيوية المبتكرة على مبادئ عدة:

عندما تخسر الحرب، ابحث لجيشك عن ساحة بديلة لخوض حربك التالية: فالهزيمة العسكرية، أياً كان حجمها، لا تعني هزيمة الأمة أو الشعب، ذلك أن بقاء الأمة أو الشعب هو الجوهر الاجتماعي الحقيقي لكل أمة أو شعب، لا بقاء المؤسسة السياسية أو العسكرية أو حتى الدينية.

لا تهدف لعبة الشطرنج الآسيوية إلى مخاصمة الغرب بالضرورة، بل إلى مصادقته: فلم يعد هدف المتخاصم رغماً عنه، الآسيوي، التغلب على الغرب بالمعنى العصباني للكلمة، أي تسديد الغلب عليه ومحوه من الرئاسة، بل أضحى الهدف وضعه عند حده الموضوعي واحترامه لحدوده.

يعتمد اللاعب الآسيوي، في لعبة الشطرنج التي ابتدعها، لغة اللاعب الغربي، مدخلاً إلى فضائه الفكري والمادي: فاللاعب الأسيوي لا ينطلق في تعامله مع اللاعب الغربي من قطيعة، بل من تواصل. ويمثل هذا التواصل في اعتماده الطوعي للغة الآخر المسيطر، وسيلة للتبادل. علماً أنه، بوضع نفسه على منصة الأجنبي، وعلى موجته اللغوية، يكون قد وضع نفسه على موجته المعرفية أيضاً.

يلعب الآسيوي الشطرنج على قاعدة استراتيجية دفاعية: حيث لا يسعى في نهاية المطاف إلى السيطرة على العالم، كما هي الحال مع اللاعب الغربي الذي يعيش هذه الفكرة منذ خمسة قرون ونيف، بل يكتفي استراتيجياً بالدفاع عن مجاله الحيوي.

اللاعبون الأهم، على رقعة الشطرنج الآسيوية، هم الجند: لكن ليس أي جند، بل صنف خاص من الجند الذي نشأت عناصره، في حقول الحياة كافة، على الطاعة. فالانضباط الجماعي الذي يُظهره الجند على رقعة الشطرنج الآسيوية مختلف عن الانضباط الذي كان يظهره عسكر الجيش الألماني في زمن هتلر، حيث إن هذا وجداني وذاك أيديولوجي.

في لعبة الشطرنج الآسيوية، قد يغادر أحياناً برج آسيوي فريقه للانضمام إلى الفريق الغربي من دون أن يعتبر الأمر خيانة، انسجاماً مع العولمة التي ما عادت اليوم مشروعاً غربياً محضاً، بل هي مشروع غربي- آسيوي.

في لعبة الشطرنج الآسيوية، لم تعد الحرب عسكرية لأغراض اقتصادية، بل اقتصادية لأغراض سياسية: فاللاعب الآسيوي استوعب قاعدة الحروب الغربية الحديثة التي هي من طبيعة تطويعية. لذلك فهو يتجنبها نظراً إلى كلفتها الباهظة وتداعياتها على ما شيده من عمران بشري وحجري على مدى نصف قرن من الزمن.

هكذا يتجلى وقع سيطرة المارد الأسيوي في وقت يلاحظ انحدار إمبراطوريات أخرى.