في كتابي الأخير "كلمة وكلمتين" نشرت مقالا بعنوان "الأميات الأربع" تحدثت من خلاله عما أسميته أمية التفكير السليم، وقلت إن الأمية الأخطر في زمننا الحالي ما عادت أمية القراءة والكتابة، فهذه تكاد تكون قد انعدمت اليوم، وليست أمية اللغة الثانية لأن أغلب الناس قد صاروا في زمننا يستطيعون الحديث باللغة الإنكليزية ولو بطريقة ابتدائية لتسيير شؤونهم، وليست أمية التعامل مع الكمبيوتر والتكنولوجيا لأن عموم الناس قد صاروا يحملون طوال الوقت أجهزة كمبيوتر صغيرة تسمى هواتف ذكية، وإنما الأمية الأخطر هي أمية التفكير بشكل منهجي سليم. وما أقصده بذلك هو انعدام القدرة على التفكير بطريقة صحيحة للوصول إلى نتائج سليمة واتخاذ قرارات صائبة في سائر شؤون الإنسان في العمل والبيت ومع الأسرة وفي عموم الحياة.

Ad

لكن المشكلة التي لطالما وقفت عليها هي أن محاولة إقناع الناس بأن هناك طريقة سليمة للتفكير وطرقاً أخرى غير سليمة ليست بالأمر الهين، فالعموم يظنون أن للتفكير طريقة وأسلوبا واحدا، وأن الإنسان يولد مبرمجا على التفكير بها ويتطور تلقائيا في مسار محدد مع مضي السنوات، وقد لمست هذا من خلال مشاهدتي لإقبال الناس على الكتب والدورات التي تهدف إلى إكسابهم مهارات جديدة، منها ما هو غريب جدا أحيانا، وعزوفهم إلى حد كبير نسبيا عن تلك التي تهدف إلى تعليمهم الأسس السليمة للتفكير وإدارة الذات قبل الشروع بأي شيء آخر.

واسمحوا لي هنا أن أغوص قليلا في الفكرة لتوضيحها، يندفع الناس نحو الكتب والدورات التي تعلمهم "كيف" يفعلون هذا ويفعلون ذاك، و"كيف" يكتسبون هذا ويكتسبون ذاك، وتتكاثر هذه الكتب والدورات تكاثرا سريعاً لإدراك أصحابها ومسوقيها لحجم تفاعل الجمهور مع السؤال الذي يبدأ بالمفتاح "كيف" لما فيه من جاذبية ووعد بالكشف عن شيء مجهول. كيف تصبح ناجحا؟ كيف تصبح قارئا سريعا؟ كيف تكسب المزيد من المال؟ كيف تتعرف على شخصيات الآخرين من خطوطهم؟ وكيف وكيف وكيف... في حين أن السؤال الأهم من "كيف"، وهو السؤال الذي يجب أن يسبق في مسار عملية التفكير المنهجي السليم هو السؤال باستخدام المفتاح "لماذا؟". من الضروري أن أعرف لماذا أريد النجاح في هذا المجال أو ذاك قبل أن أعرف كيف، ولماذا أريد أن أقرأ بسرعة؟ ولماذا أريد أن أكسب مزيدا من المال؟ ولماذا أريد أن أتعرف على شخصيات الآخرين من خطوطهم؟ ولماذا، ولماذا، ولماذا، قبل كيف وكيف وكيف!

الأهمية الكبرى للمعرفة باستخدام المفتاح "لماذا" قبل الشروع في استخدام المفتاح "كيف" تكمن في أن الإنسان، وعندما يدرك إجابة السؤال "لماذا" على وجه الدقة، فإنها تكون المساهم الأول في خلق "الدافعية" الحقيقية للانطلاق في عملية التعلم باستخدام "كيف"، وفي المقابل فإن الشخص الذي لا يعرف السبب الجوهري الدافع من وراء قيامه بأي عمل سرعان ما يفتر أو سرعان ما ينحرف عن وجهته أو سرعان ما يتوقف، وإن هو استطاع أن ينجو من هذه الاحتمالات كلها، فإنه وإن أنجز الأمر فلن يستطيع الاستفادة منه على الوجه الأمثل والأكمل في حياته من بعد ذلك.

كثيراً ما شاهدت أشخاصا ينخرطون في دورات ودراسات عليا وأنشطة تأخذ من أموالهم وجهودهم وأعمارهم الشيء الكثير، وهم لا يعرفون على وجه الدقة لماذا يقومون بها، وكيف سيستفيدون منها في حياتهم من بعد ذلك، وكيف ستضيف لهم.

السؤال بلماذا يأتي قبل السؤال بكيف دائما يا سادتي، ومن الضروري للنجاح في الحياة أن نفكر بشكل منهجي سليم، ومن أهم عناصر التفكير السليم أن نسأل دائما وقبل الشروع بتعلم أي شيء أو عمله لماذا نريد أن نفعل ذلك، وعند غياب الإجابة أو عدم وضوحها فيجب ألا نغامر بهدر أموالنا وجهودنا وأعمارنا!