كلما وصلت إلى لندن قصدت المسرح، فهو وجهها المتجدد، وسرها السحري الجاذب لملايين البشر، وامتحان عبقرية المسرحيين على أرضها.

Ad

قبل أيام شاهدت عرض مسرحية "تشارلي ومصنع الشوكولاتة-Charlie and the chocolate factory"، وكثيرة هي الأشياء اللافتة، بدءا بامتلاء المسرح عن آخره بالمشاهدين وتنوعهم من مختلف بقاع الأرض، رغم ارتفاع سعر التذاكر، مرورا بقدرة مباني مسارح لندن العجيبة على التكيف مع كل التقنيات الحديثة، وكأن مهندسي بنائها قد خططوا لها لتعيش مئات السنين، وأخيرا قدرة العاملين في المسرح كتابا وممثلين ومهندسي ديكور وسينوغرافيا وموسيقيين على تجاوز المألوف، وتقديم أعمال فيها من الروعة والسحر ما يستعصي على التجاوز والنسيان.

عظمة المسرح الموسيقي في لندن تتجلى بعزف حي لفرقة موسيقية كاملة، تشكل "أوركسترا"، وتناسقها مع العرض المسرحي، واختيار ممثلين يجيدون الأداء الموسيقي الأوبرالي، ليأتي عرض كل ليلة حياً كاملاً، وليس فيه أي مكان لتسجيل مسبق "play back"، كما بات مألوفاً وممجوجاً في المسارح العربية، حيث يقوم الممثلون بتسجيل الأغاني مسبقاً في استديو، ويتم ترديدها البائس على خشبة المسرح.

حضرت المسرحية، وكنت مندمجاً في عجائبها، لكن قلبي كان منفطراً ومعلقاً بمسرح مصر، فما يجري في ساحات مصر الحبيبة وأزقتها من اقتتال دموي بين أبناء الشعب الواحد، هو حدث الوطن العربي بأسره، ولا أظن أنني مبالغ إذا قلت: إن ما يجري على أرض الكنانة هو حدث حياة يخص أقطار الوطن العربي بأسره، مثلما يخصّ مصر. وأن نتائجه ستغيّر وجه مصر، وستصبغ بمساحيقها وجوه أقطار الوطن العربي!

المسرح في لندن تحديداً لم يعد نصاً وسيناريو وممثلين وديكورا ومخرجا، لقد تجاوز الزمن هنا كل هذا، وصار العرض المسرحي مشروعاً تجارياً تتبناه شركات فنية كبيرة، وتسخّر له كل التقنيات الحديثة، بواسطة شركات متخصصة في الإضاءة وأعمال الديكور المتحرك والرافعات الحديدية وأعمال إضاءات الليزر، وأخيراً الاتفاق مع مايسترو يقوم بوضع موسيقى مصاحبة للعرض، تنبع من روح العرض، وتنتهي عند كل حركة يقوم بها كل ممثل على الخشبة. هذا كله يأتي سابقاً لاختبارات صعبة ومتخصصة لاختيار الممثلين، كونهم سيؤدون أغاني حية بمصاحبة فرقة لا تراهم، فالمسارح في لندن مصممة لتكون الفرقة في مستوى مخفي عن الجمهور، ولا يشاهد الجمهور سوى العرض المسرحي، ووحده المايسترو يتابع حركة المسرح ويعطي بعصاه السحرية التوجيهات للفرقة لعزف المطلوب.

المسرح هو فن يعكس روح الشعب، وإذا أخذنا في الحسبان الزلزال العنيف الذي يضرب ويشمل شعوب الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، وأن هذا الزلزال يأتي مخيفاً ومعجوناً بالعنف والقتل والدم، وأن تاريخاً جديداً يُكتب للمنطقة العربية، تاريخاً مازالت صورته ضبابية ومخيفة وغير واضحة المعالم، وأن هذا التاريخ قد يجرّ شعوب الوطن العربي إلى اختلاف واقتتال لعقود مظلمة، والأمنية الكبيرة أن يكون نحو الأفضل، نحو الحرية والكرامة والديمقراطية وحقوق الإنسان، والفكر والثقافة المتحررة من كل قيود التخلف والمنع والتسلط، ومنفتحة على كل ما هو إنساني!

المسرح في لندن يتطور بسرعة مذهلة، وسط منافسة تجارية محمومة، وحضور جماهيري على امتداد العام، وعروض يستمر بعضها لعقود، ولذا فهو معني بتقديم متع بصرية ساحرة، ومنشغل بتسخير كل سبل التقنيات الحديثة لخدمته. لكن أهل مسرحنا العربي منشغلون بالهرب من الموت، واللجوء إلى ديار الغربة، والبحث عن البدء في حياة جديدة على أرض ليست بأرضهم، ومع هذا الوضع الموجع تكون النتيجة ضياع المسرح العربي وتقهقره، فالعرض المسرحي العربي الأهم والظاهر على شاشات كل الدنيا، هو الاختلاف والعنف والقتل!