منذ اندلاع الأزمة المالية في عام 2008، تمكنت أغلب الاقتصادات الصناعية من تجنب أي شيء أشبه بالانهيار الذي حدث أثناء أزمة "الكساد العظيم" في ثلاثينيات القرن العشرين. ولكن رغم الحوافز المالية والنقدية الواسعة النطاق، فإن هذه الاقتصادات لم تشهد أي انتعاش اقتصادي كبير. وعلاوة على ذلك فإن اتجاه ما قبل الأزمة من التفاوت المتزايد في الدخول والثروات لايزال مستمراً (في تناقض ملحوظ مع فترة ما بعد أزمة الكساد العظيم، حيث تقلصت فجوة التفاوت). وتشير بيانات دراسات المسح إلى انخفاض سريع في رضا الناس وثقتهم في المستقبل.

Ad

ويكمن تفسير وعكة ما بعد الأزمة -وتصور الناس لها- في مزيج من عدم اليقين الاقتصادي ونشوء أشكال جديدة تماماً من التفاعل الاجتماعي، فالتحولات البنيوية الطويلة الأمد تعمل على تغيير طبيعة العمل جوهرياً، وبالتالي الطريقة التي ننظر بها إلى التبادل الاقتصادي.

في أوائل القرن العشرين، كان قسم كبير من السكان حتى في الاقتصادات المتقدمة لايزال يعمل في الزراعة. ثم انخفضت هذه النسبة لاحقاً بشكل حاد، وبوسعنا أن نرى نفس الانحدار في وقت لاحق في تشغيل العمالة في الصناعة. فمنذ أواخر القرن العشرين، كان أغلب النمو في تشغيل العمالة في قطاع الخدمات، خصوصاً الخدمات الشخصية- وهو النمط الذي يبدو كأنه انعكاس لاتجاه تاريخي سابق.

عند بداية القرن العشرين، كانت أسر الطبقة المتوسطة العليا توظف عدداً كبيراً من الطهاة والخدم والمربيات وعمال النظافة. وفي سنوات ما بين الحربين العالميتين اختفى هذا النوع من الموظفين إلى حد كبير من حياة الجميع باستثناء الأسر الفاحشة الثراء. كان المؤرخ البريطاني المعارض للقيم المجتمعية السائدة ايه. جيه. بي تايلور من أن الرثاء والحزن إزاء انحدار بريطانيا كان في واقع الأمر عبارة عن تأملات عامة نابعة من نظرة الأكاديميين في أوكسفورد إلى "مشكلة الخدم".

ولكن بحلول نهاية القرن العشرين، عاد عدد كبير من هذه المهن الخدمية القديمة إلى الظهور على نطاق واسع، مع احتياج الأسر المزدوجة المهنة التي يعمل طرفاها إلى "مساعدة" إضافية. وقد عكس تشغيل المربيات وجليسات الأطفال اتجاهات متباينة بدقة في التعامل مع مشكلة رعاية الأطفال.

وبعد رعاية الأطفال، ظهرت جحافل من المدرسين الخصوصيين، ومدربي الاختبارات، ومستشاري القبول بالجامعات. وبعيداً عن الاحتياجات المرتبطة برعاية الأطفال والمراهقين تنامى الاحتياج إلى الدعم الشخصي المتخصص.

والواقع أن بعض الخدمات الجديدة كفيل بإجهاد مخيلة العصور السابقة. على سبيل المثال، تستعين وكالات التعارف الآن بعمليات حسابية (خوارزميات) متزايدة التعقيد لفرز وتصنيف حياة عملائهم الرومانسية. ويعمل المحامون على تطوير عقود ما قبل الزواج، ثم هناك التعقيدات المرتبطة بمفاوضات الطلاق. ويختار لنا مستشارون متخصصون في التصميم ملابسنا وتصميمات بيوتنا من الداخل. ويرعى المدربون الشخصيون لياقتنا البدنية. ويعمل المتخصصون في التجميل والعناية بالبشرة ورسم الوشم على تشكيل مظهرنا.

كان التعليم والخدمات الصحية من بين أكبر مجالات التوسع في التوظيف الخدمي. بيد أن هذا لم يكن نتيجة لإضافة المزيد من المدرسين والأطباء. فقد أحاط تقسيم جديد للعمل تخصصات التعليم والصحة الكلاسيكية بطبقات متزايدة من الإدارة، فالأطباء يحتاجون إلى خبراء في التعامل مع أشكال التأمين، والتفاوض مع الأطباء الآخرين ومقدمي الخدمات الصيدلانية، وإدارة المخاطر القانونية. ويملأ المتخصصون في التعليم كل فجوة لوجستية أو إدارة يمكن تخيلها، فيديرون البرامج الرياضية وبرامج تعليم الفنون، ويضمنون التنوع، ويشرفون على نقل التكنولوجيا إلى القطاع الخاص. وهناك جيش سريع النمو من الإداريين يجتاح جامعاتنا.

الواقع أن أياً من هذه الخدمات الجديدة يتعذر وضع معايير ثابتة لها، أو التعامل معها من مسافة (كما هي الحال مع بعض أنماط العمل القانون والمالي). فلابد من وجود مقدمي الرعاية والمستشارين في الموقع. وهذا من شأنه أن يثير تساؤلات حول السيطرة والتحكم. فكيف يصبح بوسعنا أن نثق في مقدم الرعاية للأطفال؟ يستعين الآباء الحذرون بوكلاء متخصصين لاختيار الموظفين والتكنولوجيا المطلوبة لمراقبتهم أثناء عملهم. لذا، فحتى يتسنى لنا أن نعرف المزيد عن سمعة مقدمي الخدمات فإننا نحتاج إلى المزيد من مقدمي الخدمات: التقييمات والدراسات الاستقصائية ووكلاء يرشحون لنا وكلاء آخرين.

إن اقتصاد الخدمات الجديد يمد علاقات السوق إلى مجالات من الحياة، حيث سادت في زمن سابق المساعدة غير الرسمية والتوجيه ضمن وحدات الأسر. وبقدر ما يمكن تسجيل العمالة والدخول في قطاع الخدمات الجديدة بسهولة، فإن هذا التغيير يعني ضمناً زيادة قابلة للقياس في الثروة الاقتصادية والناتج، لأن الخدمات المنزلية غير المدفوعة يتم تجاهلها في حسابات الناتج المحلي الإجمالي.

وبالتالي فقد يفسر الخبراء عواقب الاقتصاد الكلي باعتبارها إيجابية إلى حد كبير. ولكن عنصر الاعتماد الشخصي يشكل ردة إلى عالم ما قبل الصناعة.

بلغ اقتصاد الخدمات القديم أوجه في بلاط لويس الرابع عشر، حيث كان رجال الحاشية المتخصصون يسهرون على تلبية احتياجات "ملك الشمس"، وحتى أكثرها شخصية (فكان هناك خادم يتولى رعاية مقعد التبرز الخاص بالملك). في عالم ما قبل الحداثة كانت الحياة الخاصة عامة إلى حد غير عادي، في حين عملت الحركات الاجتماعية في القرنين التاسع عشر والعشرين على توسيع نطاق الخصوصية الفردية وتعريف الذات بشكل جذري.

إن اقتصاد الخدمات الجديد اليوم مدفوع بفعل حالة عدم اليقين حول الهوية. فنحن في احتياج إلى المشورة بشأن كل جوانب الحياة، والتي يقدمها في عالم معقد أشخاص نعتبرهم خبراء في مجالات متزايدة الصغر والتخصص. والآن يمكننا بسهولة مراقبة هذه المشورة وإخضاعها لاختبارات إحصائية: فهل تحسن أداء أطفالنا في الاختبارات؟ هل أصبحنا أكثر لياقة؟ هل نواعد عدداً أكبر من الناس الذين يشاركوننا اهتماماتنا؟

من عجيب المفارقات هنا أن الإمكانات التكنولوجية الجديدة تقضي أيضاً على الخصوصية، فنحن نرتد بسرعة إلى عالم "ملك الشمس"، حيث كل الأمور الشخصية معلومة وتتناقلها الأفواه بالشائعات. ولكن الآن، وفي ظل المراقبة الإلكترونية، أصبح الاعتماد الشخصي أكثر تطرفاً وإذلالاً وإحباطاً من أي وقت مضى.

وقد يفسر هذا بعض الاستياء العام الذي تعبر عنه دراسات استقصائية عديدة، حتى عندما لا تكون الظروف الاقتصادية سيئة. إن النمو الحديث يبدو من الناحية الذاتية إشكالياً، بل وربما غير أخلاقي.

* هارولد جيمس | Harold James ، أستاذ التاريخ والعلاقات الدولية في جامعة برينستون، وأستاذ التاريخ في معهد الجامعة الأوروبية، ومؤلف كتاب "صنع الاتحاد النقدي الأوروبي".

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»