من الذاكرة: قلقيلية

نشر في 13-07-2013
آخر تحديث 13-07-2013 | 00:01
 صالح القلاب في ذلك الصيف، وككل صيف من تلك الفترة من العمر، ذهبت لأمضي جزءاً من عطلتي المدرسية مع عائلة شقيقي الأكبر الذي كان أحد منتسبي الكتيبة التاسعة في "الجيش العربي" التي كانت دائمة المرابطة في الضفة الغربية، وكانت وجهتي هذه المرة بلدة قلقيلية التي كنا نذهب إليها، مثلها مثل كل مدن وبلدات وقرى الجزء الغربي من ضفة الأردن، وكأننا نذهب إلى معان أو ماعين أو الكرك أو المفرق أو الرمثا أو عجلون أو السلط أو إربد.

كان منزل شقيقي، الذي لا يختلف في شيء عن منزلنا في "العالوك"، يقع في الضاحية الجنوبية من قلقيلية على الطريق إلى قرية "رأس عطية" التي تقع على رأس مرتفع يطل على وادٍ يجاورها من الغرب، أصبح خطاً فاصلاً بين باقي ما تبقى من فلسطين وبين ما احتل من هذا الجزء الغالي من الوطن العربي في عام 1948، ويقول القرويون من أهل هذه القرية عن هذا الوادي إن نابليون بونابرت مرَّ به عندما كان يتحرك على رأس جيوشه الفرنسية إلى عكا التي لم تكن تخاف وقتها من هدير البحر.

لا يفصل قلقيلية عن شاطئ البحر، الذي يمكن مشاهدة الشمس من "رأس عطية" وهي تأوي إليه ككرة ذهبية في لحظات ما قبل الغروب، إلا بضعة كيلومترات كانت قبل أن تلتهمها الوحوش والغيلان الأسمنيتة بيارات برتقال جميلة كانت ولاتزال "قواشينها" مع أهلها الذين حالت بينها وبينهم حراب الاحتلال ودوريات جنوده الذين كانوا يبدون غرباء عن هذه الأرض التي جاؤوا إليها، في لحظة عربية مريضة، من أربع رياح الأرض.

لم يستسلم أصحاب هذه البيارات، الذين كان حنينهم لأرضهم لايزال ساخناً وطرياً، للأمر الواقع وكان كثيرون منهم ومن أبنائهم يتسللون ليلاً في فترات المواسم ليقطفوا شيئاً من برتقالها المميز، وكان بعض هؤلاء يتعرضون لرصاص حراس جريمة التاريخ فيسقطون شهداء تُخضِّب دماؤهم تراب الأرض المجبول بعرق الآباء والأجداد.

بعد نحو أسبوع أصبحت واحداً من أطفال المنطقة، إذْ لم أشعر ولو مرة واحدة أو لحظة واحدة أنني لا أنتمي إلى هذا التراب وإلى هذه الأرض. وذات مساء شديد الرطوبة، ذهبت إلى "رأس عطية" لأزور صديقاً تعرفت عليه قبل يومين اسمه "صالح" مثلي، وهناك وجدت عدداً من أهل القرية الصغيرة يتجمعون تحت شجرة كبيرة معمرة كانت تبدو وكأنها تقف في ذلك المكان لتحرس أشجار العليق والصَّبْر التي يمتلئ بها بطن الوادي الذي مر به نابليون عندما كان يقود جيوشه نحو "عكا" التي باتت تخاف من هدير البحر.

استقبلني صديقي صالح بالاندفاع نحوي وكأنني شقيق له عاد بعد غيبة طويلة وأخذ أهله الذين هم معظم أهل "رأس عطية" يرحبون بي كضيف هبط عليهم من السماء، وتطوع بعضهم لإعطائي معلومات عن هذه القرية وعن الأودية المحيطة بها ومن بينها ذلك الوادي الذي عبره نابليون وهو في طريقه إلى عكا التي قهرته ولم يستطع أن يقهرها، ولقد قال أحدهم بلهجة فلاحية جميلة ليست غريبة عليَّ أنا القادم من قريتي الواقعة إلى الشرق من النهر الخالد عند مبسم الصحراء: "إن أشجار الصَّبر تلك كان زرعها جدي شحادة الذي اقترب من الثمانين من عمره والذي اعتاد ارتقاء تلك الصخرة المرتفعة كل مساء، فيستمر في متابعة النظر إلى أشجاره إلى أن تختفي خلف أردية الظلام وستار العتمة فيعود لينام مع حزنه وأوجاعه".

استبد بي الحزن وتحركت فيَّ نخوة الصحراء، وأبلغت الحضور أنني سأذهب لجلب ثمار الصَّبر رغم أن أشجاره تقع في "المنطقة الحرام" ورغم أن الرؤية بدأت تنحسر مع اقتراب كرة الشمس الذهبية من شاطئ البحر الذي اعتادت أن تأوي إليه كل مساء. لقد استكثروا عليَّ هذه المغامرة وحاولوا منعي مما عزمت عليه، لكنني حسمت أمري وتناولت "سلة" كانت مع أحدهم، وأخذت عصا القطاف التي تنتهي بعلبة فارغة صغيرة مثبتة بطريقة بدائية، وانحدرت إلى بطن ذلك الوادي والكل يراقبني وكأنني ذاهب إلى الإعدام، وأخذت أقطف الثمار الشوكية، وعندما كدت أنهي مهمتي وأملأ سلتي نبتت أمامي سيارة جيب عسكرية كعفريت أزرق خرج من الدغل الذي كانت تغرق فيه أشجار التين الشوكي، وسألني أحد جنودها بلهجة يغلب عليها حرف "القاف" عما أفعله "هنا"، وتابع قائلاً: "أنت تسرق محاصيل إسرائيل. إننا سنأخذك إلى السجن". فأجبته ببعض الانكسار بأن أشجار الصَّبر هذه لجدي شحادة وليست لإسرائيل، فقال وهو يطلق ضحكة مدوية: "ولك... روح لو انك لست صغيراً لأخذتك إلى الحبس... ارجع إلى جدك شحادة ولا تعد إلى هنا مرة أخرى".

back to top