حظي الإيرانيون أخيراً بفرصة الاحتفال في الشارع، فقد أطلق الفوز الكبير الذي حققه المرشح الأقل تشدداً ورجل الدين المعتدل والمفاوض النووي السابق، حسن روحاني، خلال الانتخابات الرئاسية يوم الجمعة الماضي احتفالات عفوية لم تحاول السلطات منعها في ساحات طهران وشوارعها الكبرى. نزعت النساء حجبهن وراح السائقون يضغطون على أبواق سياراتهم في انطلاقة عاطفية أعقبت حملة انتخابية مقموعة إلى حد ما مُنع خلالها المرشحون المختارون بدقة من عقد تجمعات انتخابية كبيرة في الهواء الطلق. لم يشأ القائد الأعلى آية الله علي خامنئي، رغم إعلانه رغبته في تدفق الإيرانيين بأعداد كبيرة إلى صناديق الاقتراع، أن يتحمّس الشعب كثيراً خوفاً من تكرار التظاهرات الحاشدة التي نزلت إلى الشارع بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة عام 2009. وهكذا استعاد عدد ممن قُمعوا قبل أربع سنوات بعضاً من حريتهم.

Ad

ولكن في الدولة التركية المجاورة الأكثر ديمقراطية، عمدت شرطة مكافحة الشغب مرة أخرى يوم السبت إلى تفريق المتظاهرين في ساحة تقسيم وسط اسطنبول ومنتزه صغير قريب منها بواسطة مدافع الماء والغازات المسيلة للدموع، محاولةً إنهاء أسبوعَين من التظاهرات التي هزّت البلاد. يدّعي رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان أنه توصل إلى اتفاق مع المتظاهرين، واعداً إياهم بإعادة النظر في بناء نسخة من الثكنات العثمانية في منتزه جيزي. كذلك أراد إخلاء الساحة كي يتمكن من تنظيم احتفال مؤيد له يوم الأحد، احتفال يقوده داعموه المسلمون المتحفظون.

لا يقتصر ما يوحّد هذه الأحداث في اسطنبول وطهران على أن الصيف قد حلّ، وأن الوقت مؤاتٍ للرقص في الشوارع، فمنذ فجر التاريخ المكتوب حتى عصر "تويتر" الحالي، اعتاد الناس التجمّع في الأماكن العامة للتعبير عن وجهات نظرهم واستمداد القوة والطمأنينة من الوجود مع مَن يشاطرونهم الرأي. فلكل حضارة آغورا، أو منتدى، أو ميدان، أو ساحة، أو منتزه: مكان يستطيع فيه الناس حرفياً التصويت بأقدامهم. حاول قادة تركيا وإيران على حدّ سواء خنق هذا النوع الرئيس من التعبير، إلا أنهم دفعوا جميعاً الثمن.

بعد الترويج بمهارة لصورة تركيا كخليط عصري من الإسلام والديمقراطية، حاول أردوغان وحزب العدالة والتنمية، الذي يرأسه، الحدّ من الأضرار الناجمة. فالتقى بشير آتالاي، نائب رئيس الوزراء التركي الذي تصادف سفره في تلك الفترة إلى واشنطن لحضور مؤتمر، بممثلي تركيا في العاصمة الأميركية والمسؤولين الأميركيين بغية نقل رسالة مفادها أن الديمقراطية التركية لا تزال حية سليمة.

صحيح أن تظاهرات "ميدان تقسيم" بدأت باحتشاد بيئي صغير، إلا أنها سرعان ما عكست الغضب المكبوت الذي يشعر به الأتراك المستاؤون من سياسة خارجية مخيفة تتخذ طابعاً إسلامياً وعثمانياً جديداً، سياسة أقحمت تركيا في الصراع السوري وفي الشؤون السياسية لدول المنطقة الأخرى، فضلاً عن كبرياء رئيس الوزراء المتنامية وسعيه للتحكّم في أدق تفاصيل الحياة التركية.

يذكر سونر كاغابتاي، مدير برنامج الأبحاث التركي في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى: "تُعتبر هذه المرة الأولى التي نشهد فيها تظاهرات شعبية ضخمة في تركيا". ويتوقع كاغابتاي تظاهرات إضافية تنظمها الطبقة الوسطى التركية، وهي مجموعة سكانية تنمو بسرعة وتطالب، وفق كاغابتاي، "باحترام حرية التجمع والتنظيم" وحرية الصحافة وبالتركيز على البيئة. ولم تقتصر الإساءة التي تعرض لها الأتراك على صور الغاز المسيل للدموع ومدافع الماء التي وُجِّهت ضد متظاهرين مسالمين في "ميدان تقسيم"، بل شملت أيضاً تجاهل أردوغان لهم بادئ الأمر، معتبراً إياهم مجرد رعاع وعملاء لقوى أجنبية، لا مواطنين لهم الحق في التعبير عن رأيهم. حتى إنه لام أخيراً اليهود.

تذكّر لهجة أردوغان بالخطاب الذي لجأ إليه المسؤولون الإيرانيون كي يحطوا من شأن الحركة الخضراء عام 2009. وبدت الحكومة الإيرانية أخيراً مصممة على منع تكرار تظاهرات ملأت قبل أربع سنوات ميدان آزادي الشهير بملايين الناس الذين راحوا ينادون: "أين صوتي؟". لذلك اتخذت الحكومة الإيرانية عدداً من الخطوات هذه السنة لتحدّ من التعبير الشعبي عن المشاعر السياسية. أولاً، استبعد مجلس صيانة الدستور، الهيئة التي تختار كل المرشحين لهذا المنصب المنتَخب، أكثر من 600 مرشح، بمن فيهم الممثلون الأبرز للأفكار التي لا تدعم كاملاً القائد الأعلى آية الله علي خامنئي: مرشحون مثل الرئيس السابق أكبر هاشمي رافسنجاني وإسفنديار رحيم مشائي، المساعد المقرّب من الرئيس المنتهية ولايته، محمود أحمدي نجاد.

حظرت السلطات بعد ذلك المناظرات المتلفزة بين المرشحين، التي أدت عام 2009 إلى صدامات قوية بين أحمدي نجاد وخصمه الأول حينذاك، مير حسين موسوي. فساهمت هذه الصراعات في زيادة اهتمام الناس بالانتخابات، وربما عززت تدفق الناخبين إلى صناديق الاقتراع، ففاقت نسبتهم يومذاك الثمانين في المئة. وأخيراً، ملأت الحكومة خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة من الحملة الرسمية الشوارع برجال الشرطة وعناصر الأجهزة الأمنية، الذين يرتدون ملابس مدنية، كي تمنع أي تجمعات شبيهة بما حوّل الساحات الكبرى وشارع "ولي عصر" الرئيس في طهران إلى أماكن لاحتفالات دامت طوال الليل خلال مرحلة ما قبل انتخابات عام 2009. وقد شكلت هذه الإجراءات ضربة قاسية للشباب الإيراني، الذي قلما يحظى بفرص للاستمتاع علانية (أعتقد أن الشبان الإيرانيين لا يخرجون إلى الشارع بأعداد كبيرة إلا خلال الاحتفال بانتصار مهم في لعبة كرة القدم الدولية أو خلال عاشوراء).

نظراً إلى هذه القيود، كانت التطورات العفوية محدودة هذه السنة. لكن دعم روحاني تنامى تدريجياً، خصوصاً بعد انسحاب المصلح الحقيقي الوحيد من السباق الرئاسي وإعلان رافسنجاني والرئيس السابق محمد خاتمي دعمهما له. وخلال اليوم الأخير من الحملة، خطب روحاني بحشود من المؤيدين المتحمسين داخل مدرجات. كذلك تحدثت التقارير عن تجمع واحد على الأقل مؤيد لروحاني في ميدان فاناك وسط طهران يوم الثلاثاء، فضلاً عن تجمعات أكبر في مدينة مشهد الشرقية. وفيما سعى المسؤولون الإيرانيون لعرقلة تظاهرات مماثلة، شجّعوا الناس على التصويت.

حضّ القائد الأعلى خامنئي، في تعليق معبر نُشر أيضاً على حسابه على "توتير"- تعليق يعكس إقراره بتراجع شعبية حكومته- كل الإيرانيين، "حتى الذين لا يريدون دعم النظام الإسلامي، إلا أنهم يودون تأييد بلادهم"، على التوجه إلى صناديق الاقتراع. ولا شك أن الإقبال الكبير أو "النصر السياسي"، كما دعاه خامنئي في الأيام التي سبقت التصويت، سيشكّل ضربة في وجه أعداء إيران في الخارج، الذين يحاولون سحق البلد بالعقوبات، وفق هذا القائد.

في الختام، شارك أكثر من 70% من الخمسين مليون إيراني المخولين التصويت في انتخابات يوم الجمعة. لكن الرسالة التي بعثوا بها لم تتمحور حول "المقاومة"، كما ظن قائدهم، بل اختاروا رجلاً اعتقدوا أنه سيحدّ من عزلة إيران ويخفف من الجو الضاغط الذي يحول إيران إلى مجتمع مقموع.

أما في إسطنبول، فكانت الجرافات تحطم الخيم في منتزه جيزي، وما عاد أردوغان، الذي يرغب في الترشح للرئاسة عام 2014، واثقاً من الفوز مع ناخبين يزدادون قوة وحماسة تدريجياً، وهذه الديمقراطية بالتأكيد.

* باربارا سلافين