الزمان: 29 نوفمبر 2003... تمام الساعة السابعة صباحاً.
المكان: قسم شرطة قصر النيل.الحركة هادئة داخل القسم، مثلما تكون عليه الحال في معظم أقسام الشرطة في هذا الوقت المبكر من الصباح. المحتجزون داخل التخشيبة نائمون، والضباط يتأهبون لإنهاء فترة الليل ليتسلم زملاؤهم بعد قليل فترة الصباح داخل القسم. أما ضباط المباحث فقد انصرفوا في الثالثة فجراً، فالبلاغات بعد هذا الوقت غالباً ما تكون نادرة أو تافهة أو تحتمل الانتظار، وفي حالة الضرورة الطارئة يستدعي الطاقم ضباط المباحث... لكن هذا الصباح كان يحمل مفاجأة من العيار الثقيل: بلاغ سيتحول إلى زلزال يهز وزارة الداخلية والرأي العام في مصر وتونس وربما باقي الدول العربية، بل ستطيره وكالات الأنباء العالمية إلى كل بقاع الدنيا.البلاغ من خادمة رجل الأعمال ذائع الصيت أيمن السويدي، زوج المطربة التونسية المعروفة ذكرى. يقول البلاغ إن رجل الأعمال لقيّ مصرعه وإلى جواره وبالقرب منه جثة زوجته، وإلى جوارها جثة مدير أعمال رجل الأعمال واسمه عمرو الخولي ثم جثة زوجته السيدة خديجة. يقوم رئيس الدورية في لمح البصر بإخطار وزارة الداخلية ومدير الأمن وجميع القيادات، يتكهرب الجو. يصل ضباط المباحث في لحظات إلى مسرح الجريمة في العقار رقم «23 أ» في شارع محمد مظهر في الزمالك حيث وقعت الجريمة في الطابق الأول، تحديداً في الشقة رقم 101. الجثث متناثرة وسط بركة من الدماء التي لم تجف بعد، رائحة الموت تملأ المكان، كميات كبيرة من فوارغ الأعيرة النارية وآثار لطلقات أخرى اخترقت جثث القتلى في أماكن مختلفة بينما تبدو جثة رجل الأعمال شبه سليمة لا تتفجر منها الدماء إلا من الفم والأنف والعنق.المعاينة المبدئية للشقة ومحتوياتها وملحقاتها تثبت العثور على خادمتين في إحدى الحجرات تعانيان انهياراً تاماً وتنخرطان في بكاء هستيري، بينما ما زال جسداهما يرتجفان. الخادمة الأولى اسمها أمل أحمد والثانية أم هاشم حسني. وكان طبيعياً أن تكونا أول من يوجه إليهما السؤال العريض: كيف وقعت المذبحة؟ وجاءت الإجابة واحدة على لسان الخادمتين:** الهانم كانت خارج المنزل مع صديقتها الست خديجة ثم عادت الهانم وصديقتها قرب الفجر. وبعد لحظات وصلت صديقة أخرى للهانم هي الست كوثر، وبعد وقت قصير حضر البيه أيمن ومعه صديقه عمرو الرجل الذي يدير أعماله. وسمعنا البيه أيمن يطرد الست كوثر من الشقة ويلقي إليها بحذائها لتخرج بسرعة حتى يتمكن من إدارة حوار عائلي مع زوجته ذكرى هانم. وحدث شجار بين البيه والهانم وتدخل مدير أعماله وزوجته خديجة لتهدئته والدفاع عن ذكرى هانم لأن البيه كان يشك في تصرفاتها. وفجأة تركهما البيه ودخل حجرة مكتبه ثائراً. ولأننا كنا نخشاه دائماً في لحظات غضبه أسرعنا إلى حجرتنا وأغلقنا علينا الباب من الداخل وظللنا نتنصت وننظر من ثقب الباب لمتابعة ما يدور. لكن المفاجأة الكبرى كانت حينما سمعنا صوت الرصاص يدوي أكثر من دقيقتين. عدد لا يمكن حصره من الطلقات التي خرجت من السلاح الآلي واختلط دوي الرصاص بصراخ الهانم وصديقتها. شعرنا بالرعب وأمسكت كل منا بالأخرى تحتمي فيها. كان الخوف يجتاحنا من أن يتذكر البيه وجودنا فيأتي إلينا ويطلق النار علينا حتى يتخلص منا. لكن يتوقف في وقت واحد صوت الطلقات والصراخ. عاد الهدوء التام. لكنه كان مخيفاً مثل صوت الصراخ!* ومتى خرجتما من الحجرة الخاصة بكما؟** بعد ربع ساعة. لم يعد في الشقة أي صوت.* ماذا رأيتما؟** الأربعة تحولوا إلى جثث. كانت الهانم تلفظ أنفاسها الأخيرة. عيناها مفتوحتان ورموشها تتحرك ببطء وجسدها ينتفض، لكنها بعد لحظات أسلمت الروح وسكن جسدها تماماً.* أين كانت الجثث؟** في نفس المكان في الريسبيشن!* هل كانت مشاجرات أيمن وزوجته متكررة؟!** نعم. لكن ليس بهذا الشكل الذي سبق المجزرة!* وما سبب الشجار الدائم!** الغيرة الشديدة. أيمن بيه كان بيغير عليها من الهوا الطاير. وكان كل يوم يسألنا من ورا ظهر الهانم عمن زارها ومن حدثها أو حدثته في التليفون. ونبه علينا بألا تعرف الهانم شيئاً من أسئلته لنا عنها وإلا سيكون الطرد مصيرنا. لهذا كنا نطيعه وننفذ له ما يريد.* وهل كان تصرف المجني عليها ذكرى من خلال تتبعكما لها بأوامر صاحب البيت تحمل في طياتها ما يثير الشك لدى زوجها؟** على الإطلاق. الهانم كانت تتصرف بشكل طبيعي وتحاول أن تتجنب غيرة زوجها ولو على حساب نفسها وشغلها! .بقي سؤال آخر محير: كيف لم يسمع الجيران في مسرح الجريمة صوت الأعيرة النارية المتدفقة كالسيل في سكنة الليل على رغم أن السلاح لم يكن كاتماً للصوت؟الخادمتان أكدتا أن صوت الرصاص كان مرعباً ويكاد يزلزل المكان، فيما الجيران الذين تم سؤالهم عقب الحادث أكدوا أنهم لم يسمعوا صوت أعيرة نارية!أخيراً جاءت الإجابة في التقرير الهندسي الذي أكد أن الشقة التي تكلفت ديكوراتها ملايين الجنيهات كانت مبطنة الجدران بعازل للصوت. والمؤكد أن ذكرى كانت وراء هذه الفكرة لعدم إزعاج الجيران فيما لو اضطرت إلى إجراء تمارين على ألحان أغانيها داخل المنزل. وإن كان هذا التبرير يظل غير مقنع مئة في المئة لأن الشقة لم تكن شقتها وإنما شقة زوجها أيمن السويدي، وأنه كان يقيم معها في شقتها رقم 20 في الطابق التاسع في أحد أبراج شارع سورية في المهندسين. ولم تنتقل ذكرى للإقامة مع زوجها في شقته إلا قبل الحادث بأيام. وأن شقتها في المهندسين لم تكن جدرانها مبطنة بعازل للصوت. وكان الأولى أن يكون هذا العازل في مكان إقامتها الدائم!الدافعأصبح مسرح الجريمة هدفاً للجريمة... الشرطة والنيابة والجماهير، خط أمني منيع يحيط بالعقار المجاور لفندق سفير، النائب العام المستشار ماهر عبد الواحد يتابع الموقف لحظة بلحظة، وجهات رسمية عليا تونسية تتابع أيضاً وتقترح إرسال مستشار تونسي لحضور التحقيقات... أما داخل الشقة التي تشبه من روعة ديكوراتها محتوياتها أحد أجنحة القصور الفخمة، فكان عمرو قنديل (رئيس نيابة قصر النيل) يقوم بتحريز المضبوطات التي تم العثور عليها بخلاف المدفع الرشاش والمسدس الخاص بأيمن السويدي ومسدس آخر. وكان من بينها خطاب خطير تم العثور عليه في خزانة حجرة أيمن ومكتوب بخط يده وموجهاً إلى شقيقه الصغير. تتضمن الخطاب وصية أيمن التي اشتم منها فريق النيابة رائحة قريبة الصلة من الحادث. أما خارج العمارة وبعيداً عن الأمن، فكانت السيدة وداد (أخت ذكرى) أبرز الموجودين وأكثرهم صياحاً وغضباً بعدما منعها المقدم محمود أبو غمرة من الصعود إلى مسرح الجريمة. كان أيضاً الموسيقار هاني مهنى يخطف الأنظار لقربه الشديد من المطربة ذكرى وزوجها، وكان الوحيد الذي نجا من المذبحة، وهذه قصة أخرى.كان السؤال الأهم بعد ساعات من الحادث وسماع أقوال العشرات ممن تربطهم صلات وثيقة بالقتلى الأربعة أو بعضهم تحديد إجابة لهذا السؤال المهم: ما هو الدافع إلى الجريمة؟ خصوصاً أن الأقوال التي تم الاستماع إليها تنوعت وتداخلت واختلطت. ذهب فريق إلى أن الدافع سياسي مستنداً إلى أن ذكرى سجلت أغنية الهدف منها الإساءة إلى زعيم عربي ودولته، وأن قتل زوجها بالشكل الذي يوحي أنه انتحار خطة مدبرة من مخابرات هذه الدولة لإبعاد أية شبهات عنها. أشاع فريق آخر أن الجريمة ارتكبها الزوج بدافع الشرف، في حين ذهب فريق ثالث إلى أن أحد علماء الدين كان قد أهدر دم ذكرى قبل الحادث بأسابيع لأنها شبهت نفسها في حديث للإعلام بالأنبياء، وإن كانت ذكرى قد عادت وأكدت أن كلامها قد تم فهمه بطريقة خاطئة ولم تقصد على الإطلاق المعنى الذي أهدر عالم الشريعة دمها لأجله. وذهب آخرون إلى أن أيمن السويدي تمكنت منه الشكوك التي تقترب من حد اتهام زوجته بالخيانة، وكان بسبب هذه الشكوك لا يطيق ثلاثة أشخاص في مقدمهم مدير أعمال زوجته فؤاد الشاعر ومدير أعماله عمرو الخولي وشقيق رئيس دولة عربية. وأمام هذه الحالة من السيولة في الأقوال، كان لا بد لجهات التحقيق من تحديد الدافع إلى الجريمة بدقة. وفعلاً، شعر الجميع أن أهم شهادتين ستساعدان في تحديد الدافع هي شهادة الموسيقار هاني مهنى الذي كان الوحيد الذي نجا من المذبحة قبل ارتكابها بساعات قليلة، والممثلة كوثر رمزي التي كانت هي الأخرى الوحيدة التي حضرت معظم الحوار الخطير بين القتلى الأربعة قبل دقائق من الحادث.مفاجأة هاني مهنىجاءت أقوال هاني مهنى واضحة ومحددة وصريحة:* نعم أنا أول من اكتشف روعة صوت ذكرى وساهمت في انطلاق نجوميتها من القاهرة إلى أنحاء العالم العربي عموماً ودول الخليج خصوصاً، بعدما قدمت لها ألحاناً خليجية فور اكتشافي إجادتها اللهجة الخليجية. المهم ربطت بيننا صداقة وطيدة أنا وذكرى وزوجها أيمن، وكنت أحضر بعض الخلافات بينهما وأخشى على مستقبل ذكرى من هذه الأزمات المستمرة، خصوصاً بعدما حوّل أيمن زواجه العرفي إلى زواج رسمي بسبب غيرته غير المسبوقة على زوجته.* كانت ذكرى تحبه بجنون... والأوهام كافة التي كانت تسيطر على أفكار زوجها لم يكن لها أساس من الصحة. ومن خلال معرفتي الوثيقة والراسخة بذكرى أؤكد أنها كانت فوق مستوى الشبهات وتحرص أكثر ما تحرص على شرفها وسمعتها. لكنها الغيرة الحمقاء التي كانت تنتاب أيمن كلما شاهدها تتحدث مع رجل، فما بالكم وطبيعة عملها كانت تحتم عليها مقابلة نجوم من الرجال والسياسيين والأثرياء والملحنين ومتعهدي الحفلات... وغيرهم؟ أؤكد أن ما حدث جريمة حب، دافعها الغيرة العمياء! * نعم أستطيع أن أحدد أسباب الأزمات العائلية التي دمرت الحب الكبير بين الزوجين... السبب الأول أن أيمن كان يريد من ذكرى أن تعتزل وتتفرغ له ولبيته ويشعر بأنها زوجته حقيقة. السبب الثاني رفض ذكرى بأن تتم تسجيلات أغانيها أثناء النهار كي لا تتأخر خارج البيت إلى ساعات الصباح الأولى. والسبب الثالث رغبة أيمن المستمرة في منعها من السفر لحضور المهرجانات والاحتفالات التي تغني فيها أو تحصل من خلالها على جوائز. وكان السبب الأخير رغبة أيمن في أن تقيم زوجته معه في شقته بعدما أصبح زواجهما رسمياً. فعلاً، نفذت ذكرى له هذه الرغبة، لكنه كان يستشيط غضباً كلما عادت كل ليلة في الساعات الأخيرة من الليل. * نعم، كان المفروض أن أكون خامس القتلى... دعاني أيمن للسهر معه وزوجته ومدير أعماله وزوجته لأنهم سيحتفلون بافتتاح المطعم الجديد الذي اشتراه على النيل. وحينما اعتذرت عن عدم الحضور وهو الاعتذار الذي كتب لي النجاة من موت محقق، وإن كنت قد شعرت ليلتها بحجم الغضب الذي يجتاح أيمن ويبدو واضحاً من نبرات صوته وأنفاسه المتلاحقة، فقد راح يشكو لي بعد اعتذاري من إصرار زوجته على تعمدها إثارة غيرته وخراب بيته بعدم الاستجابة لحقوقه كزوج. وأمام غضبه الجامح، اقترحت عليه أن نؤجل الحديث حتى نلتقي أنا وهو وذكرى واقترحت عليه أن يستمتع الليلة بحفلة افتتاح مطعمه الجديد. وكان هذا آخر حوار بيننا حتى سمعت بالحادث في السادسة والنصف صباحاً... أي بعد ست ساعات فقط من هذه المكالمة.* لم يقل أيمن إن الممثلة كوثر رمزي ستحضر السهرة... وأعتقد أن التي دعتها هي ذكرى. وهذا مظهر آخر للاختلاف بينه وزوجته. لم يكن يحب كوثر بينما كانت ذكرى تتمسك بصداقتها. والسؤال: لماذا كان أيمن لا يرتاح لعلاقة كوثر بزوجته؟(البقية في العدد المقبل)
توابل
أسرار مذبحة ذكرى في الزمالك (1-2)
18-07-2013