اجتاح فيضان الكلام حول آثار وتداعيات بناء السد الإثيوبي على النيل الأزرق الأوساط المصرية كافة بتوجهاتها المختلفة، وصار نهر النيل بطل الأحاديث اليومية على النواصي والمقاهي وفي الشوارع والبيوت، يخشى الجميع من عدم تواصل موجاته وجفافه في قادم الأيام.

Ad

وامتزج حديث السد والنيل بالهموم والأزمات السياسية والحياتية المعاشة، عاكساً قلقاً متزايداً بدى على الوجوه، خصوصاً الفلاحين والصيادين في القرى والمدن الساحلية، فيما بدت القاهرة كسيدة عجوز تستند إلى عكاز التاريخ تجتر الذكريات لا أكثر.

وهو موطن الأساطير والخرافات، فدموع إيزيس هي التي حفرت مجراه حسب الأسطورة الشهيرة «إيزيس وأزوريس»، وكان النهر المقدس بالنسبة إلى القدماء المصريين، يزفون إليه كل عام عروساً، لفداء قومها وبلادها، وكان لهذا التقديس تأثير بعيد المدى في عالم الأدب، فقد ذكر القدماء أن النيل لا يفيض حتى يلقى إليه بفتاة في كل عام، ويذكر المؤرخون العرب أن عمر بن الخطاب هو الذي وضع حدا للتضحية بإنسان يلقى به في النهر، وذلك بأن أخذ رقعة وكتب عليها «أيها النيل إن كنت لا تفيض إلا بضحية من البشر، فلا تفض، وإن كنت تفيض بأمر الله، فأفض»، ثم ألقى بالرقعة في النهر، فجاء الفيضان عظيماً.

الجميع يستدعي راهناً الحل الأسطوري، متمثلاً في عروس النيل التي كانت تزف إلى النهر، فداء لحياة المصريين أو يرددون نداء «عودي يا هميس»، ولكن لا حلول أسطورية في الأفق بعد فقر الخيال، الذي بدا على حوار القوى الوطنية التي اجتمعت بالرئيس، ولا دعوة سماوية تهبط بمعجزة في زمن لا توجد فية معجزات.

فيضان الإبداع

 

أفاض النيل على المبدعين كثيراً، فقد عاش نهضته في الأدب أيام زهوة الشعراء والأدباء، وكان يطلق اسمه على الشعراء، فنجد حافظ إبراهيم يلقب بـ «شاعر النيل»، ويكتب أمير الشعراء قصيدة «النيل» التي لا تزال تردد في الوجدان:  

مِـنْ أَيِّ عَهـدٍ فـي القُـرَى تتَـدَفَّقُ..

وبــأَيِّ كَـفٍّ فـي المـدائن تُغْـدِقُ

ومـن السـماءِ نـزلتَ أَم فُجِّـرتَ من

 علْيــا الجِنــان جَـداوِلاً تـتَرقرقُ

وبــأَيِّ عَيْــنٍ, أَم بأَيَّــة مُزْنَــةٍ  

أَم أَيِّ طُوفــانٍ تفيــض وتَفْهَــقُ

وبــأَي نَــوْلٍ أَنـتَ ناسـجُ بُـرْدَة    

للضفتين، جديدها لا يخلق        

ويقال إن قصيدة النيل، وهي من خيرة قصائد أمير الشعراء أحمد شوقي، قد نظمها في ليلة واحدة، وتعد في طليعة الشعر العربي‏، وقوامها 150 بيتاً، فضلاً عن ملحمته الخالدة {كبار الحوادث في وادي النيل}، التي واكب فيها رحلة التاريخ في جوف النهر أو النهر في جوف التاريخ في ثلاثمئة بيت من أبدع ما عرف الشعر العربي.

وثمة قصائد كثيرة تغنت بالنيل عرفاناً بفضله، وارتبطت أعمال الشعراء بهذا النهر، فمثَّل كل منهم محطة في سياق صورة النيل الشعرية، وتؤكد تجربة كل منهم العلاقة الوطيدة بين الإنسان المصري والنيل، من بينهم أحمد محرم، محمود حسن إسماعيل، عبد المنعم عواد يوسف، وحسن طلب وغيرهم. يقول أحمد محرم في قصيدة «هتف الدليل وسار ركب النيل»:

هتفَ الدليلُ وسارَ ركبُ النيلِ    

بوركتِما من سائرٍ ودليلِ

السبلُ يُمنٌ والركابُ عنايةٌ     

تلقي الأعِنَّةَ في يدي جبريلِ

تمشي وتتبعها المناهلُ سمحةً     

يبذلن كل مصفقٍ معسولِ

همم شددن رحالهن على السُّهى    

وعصفن بين الغفرِ والإكليلِ

جاوزن كل مدى إلى غاياته    

وأبين كل معرس ومقيلِ

يحملن آمال البلاد منيفةً       

تسمو بأتلع ما ينال جليلُ

شارفنني والدهر في خيلائه    

فعجبت من حدثانِه المحمولِ.

الرواية وجفاف الشعر

أدى نهر النيل دوراً كبيراً، ليس في الروايات المصرية فحسب بل السودانية أيضاً، وكان له دور اجتماعي وحياتي في بناء بعض الروايات، مثل «الأرض» لعبد الرحمن الشرقاوي، حيث لم يظهر النيل بشكله، ولكن كان له تأثير كبير في حركة أحداث الرواية وشخصياتها، كذلك رواية «واحة الغروب» للأديب بهاء طاهر الذي تتبع رحلة الإسكندر الأكبر إلى جنوب مصر، وكأنها رحلة النيل في البحث عن البداية، و»موسم الهجرة للشمال»، «وعرس الزين» للطيب صالح، الذي قال عنها الناقد أحمد شمس الدين الحجاجي إنها وضعت صورة للنيل مع حركة الرواية، تبدو وكأنها محاولة من الكاتب لرسم صورة النيل، تسير في عمق الرواية، فكانت صورة النيل التي قدمتها الرواية مرتبطة بصلب الرواية وبشخصية الزين، الذي ارتبط بالنيل. كذلك أشار الحجاجي إلى أن النيل أدى دوراً مهماً في بناء رواية «موسم الهجرة للشمال»، فهو بطلها الأول والمؤثر في حياة أبطالها، وأنه أثَّر في مسيرة الناس، وسيرة الشخصيات الرئيسة في الرواية.

وحمل الأدب الشعبي مكانة خاصة للنيل، فالصور التي رسمها تحمل في طياتها دلالة كبيرة هي الإحساس الجماعي العميق بالنيل، وبحسب الدكتورة نعمات أحمد فؤاد في كتابها «النيل في الأدب الشعبي» فإن كثيراً من تعبيرات الفنان الشعبي مستمدة من الألفاظ النيلية مثل الطياب والمرسى والتيار والموج، فقد استعان الفنان الشعبي بالنيل في التصوير والتعبير، واستمد من طبيعته اللفظ والمعنى، فمراكبه ورياحه وفلاحوه وتياره وأمواجه وطوفانه وزيادته ونقصانه اشتركوا في تخطيط الصور وتوزيع ألوانها.

وتشير فؤاد إلى أن النيل كان وراء الفنان الشعبي حين يغني، وحين يقص، وحين يطلق المثل من واقع التجربة، أو حين يتسلى بالفوازير. أما الشعر والرواية الحديثة، فنكاد لا نجد ذكراً للنيل فيهما، فعندما هجره الأدباء أدار لهم ظهره. فالنيل، كما يقول الشاعر عبد الرحمن الأبنودي، إذا خنت الشعر مرة خانك الشعر إلى الأبد. فانصرف كثيرون عنه وأهملوه، فأصيب بعطب شديد، وتكالبت عليه المشاكل، وتلوثت مياهه بفعل إلقاء القاذورات وغابت مباهجه، ألا قليل من العشاق على ضفتيه، يتطلعون إلى مستقبل أفضل. غير أن الشاعر أمل دنقل يعد من القلائل الذين استشرفوا مستقبل النيل في قصيدته «رسوم في بهو عربي»:

كتابة في دفتر الاستقبال

لا تسألي النيلَ أنْ يُعطي وأن يلدا

لا تسألي... أبداً

إني لأفتح عيني- حين أفتحها-

على كثير... ولكن لا أرى أحدا