«ألترا روب»... تطيل قامات الناطحات وتسبح بالإنسان في الفضاء!
ابتكرت شركة فنلندية حبالاً مصنعة من الألياف الكربونية لاستخدامها لمصاعد ناطحات السحاب وهو ما يعد حدثاً مهماً يستحق الالتفات والاهتمام في عالم البناء والتشييد، غير أن ما يثير اهتمام المهندسين والمطورين أن حبال الألياف الكربونية تجعل الأبنية تحلق إلى ارتفاعات أعلى إلى حد بعيد.
عندما وقف أليشا أوتيس على منصة في المعرض الدولي الذي أقيم في نيويورك عام 1854 وطلب من حطاب ممسكاً ببلطته الحادة أن يقطع الحبل الذي استُخدم لرفع أوتيس إلى أعلى، كانت تلك اللحظة فارقة في حياة المدينة التي تغيرت ملامحها إلى الأبد.وما أثار اندهاش الحشد الذي تجمع آنذاك حول منصة المعرض أن المصعد الآمن الجديد تحركه بسلاسة وأمان وهبوطه بوصات قليلة عند توقيقه باستحدام نظام كبح أوتوماتيكياً. وقد منح ذلك الحدث الناس ثقة بالغة في استخدام ما يصر الأميركيون على تسميته بالمصاعد elevators- تلك الثقة التي ساهمت بدورها في إطلاق قامات المباني وارتفاعها أكثر فأكثر.
اختراق السماءأما الآن فأصبح بوسع تلك البنايات وناطحات السحاب أن تواصل رحلتها في الارتفاع أكثر فأكثر وبلوغ مستويات قياسية بفضل اختراق تكنولوجي جديد ظهر أخيراً في عالم تكنولوجيات المصاعد. فقبل أيام أعلنت شركة "كوني"، الفنلندية المتخصصة في تصنيع المصاعد، أنها بعد عشر سنوات من التطوير في مختبرها في لوهجا، الذي يقبع فوق منجم بعمق 333 متراً تستخدمه الشركة لإجراء اختبارات، تمكنت من ابتكار نظام قادر على رفع مصعد إلى مسافة تصل إلى كيلومتر واحد (3300 قدم) أو أكثر.ويبلغ هذا الاختراق ضعف المسافة التي تستطيع المصاعد والروافع الارتفاع إليها في الوقت الراهن. ونظراً لأن فعالية المصاعد تعد واحدة من القيود الرئيسة في الأبنية العالية، فإن تقنية شركة "كوني"، التي تستبدل كابلات الفولاذ المستخدمة في الوقت الراهن في تعليق عربات المصعد بها بكابلات مصنوعة من ألياف كربونية ربما تنتج أبنية تستحق أن يطلق عليها اسم "ناطحة سحاب" حقيقية.تتمثل المشكلة الأساسية المتعلقة بكابلات الفولاذ (أو "الحبال" كما يطلق عليها في هذه الصناعة) في أنها ذات أوزان ثقيلة، وعند استخدامنا لأي قدر من الحبال فإنه لا يتعين عليه أن يسحب فقط العربة والكابلات المرنة التي تنقل الكهرباء والاتصالات إليها فحسب، بل عليه أن يجر الحبل المستخدم في الرفع المتدلي تحتها أيضاً.حبال فائقة المتانةولا شك أن المهمة تكون أكثر سهولة عند الأخذ في الاعتبار عنصر الوزن المعاكس، لكن حتى في هذه الحالة فإن المصعد الذي يصل ارتفاعه إلى 500 متر- وهو الحد الأقصى للارتفاع الفعال في الوقت الراهن- تشكل الحبال الفولاذية ما يصل إلى ثلاثة أرباع الكتلة المتحركة من الآلة. ويتطلب تحريك هذه الكتلة طاقة أكبر على نحو يجعل المصاعد الأعلى ارتفاعاً أكثر تكلفة.كما أن جعل الحبال أكثر طولاً يعرض الفولاذ إلى الكسر بفعل الحمولة، وتقول شركة "كوني" إنها قادرة على تخفيض أوزان حبال المصاعد بما يقارب الـ90 في المئة عن طريق استخدام البديل المتطور المبتكر من الشركة المصنع من الألياف الكربونية، التي يطلق عليها الحبال الفائقة المتانة "ألترا روب".فالألياف الكربونية أقوى وأخف وزناً من الفولاذ، وهي تتمتع بقوة مقاومة شد كبيرة ما يعني صعوبة تعرضها للكسر أو التمزق عند السحب من أطرافها. وتأتي تلك المتانة الكبيرة التي تتمتع بها حبال "الألترا روب" بفعل الروابط الكيميائية التي تربط بين ذرات الكربون: النوع ذاته الذي يعطي للألماس صلابته.ويقول جوهانس دو جونغ، رئيس إدارة التقنية للمشاريع الضخمة في شركة "كوني"، فإن الحبال الفولاذية المستخدمة في مصعد ارتفاعه 400 متر يصل زنتها حوالي 18 ألفاً و650 كيلوغراماً، أما في حال استخدامنا للحبال الفائقة "الألترا روب" في مثل هذا المصعد فإن زنة الحبال لن تتجاوز 1170 كيلوغراماً... وبشكل إجمالي سيصل وزن المصعد الذي يستخدم "الألترا روب" 45 في المئة أقل من المصعد الذي يستخدم الحبال الفولاذية. وإضافة إلى خفض استهلاك الطاقة، فإن الحبال الأخف وزناً تجعل عملية كبح العربة أكثر سهولة في حال حدوث خطأ.ويرى جوهانس دو جونغ أن الألياف الكربونية بدورها ستخفض فواتير الصيانة لأن عمرها الافتراضي يصل إلى ضعف العمر الافتراضي للحبال الفولاذية، ثم إن الألياف الكربونية ذات ترددات إصدار مختلفة إذا ما قورنت بمواد البناء الأخرى ما يعني أنها ستميل بقدر أقل عند تحرك ناطحة السحاب خلال الرياح العاصفة- وهو ما يستهدفه أي تصميم للأبنية العالية وناطحات السحاب. وفي حين قد يؤدي هبوب الرياح القوية إلى تعطل المصاعد المستخدمة في الوقت الراهن فإن المصاعد المستخدمة للحبال الفائقة من الألياف الكربونية تجعل حدوث ذلك أقل احتمالاً.سباق الارتفاعاتكل هذه العناصر تجعل من ابتكار حبال الألياف الكربونية حدثاً مهماً يستحق الالتفات والاهتمام في عالم البناء والتشييد، غير أن ما يثير اهتمام المهندسين والمطورين أن حبال الألياف الكربونية تجعل الأبنية تحلق إلى ارتفاعات أعلى إلى حد بعيد. ثم إن الحبال الأخف وزناً والأكثر قوة تعني أن العائق الرئيسي إزاء تشييد أبنية عالية يكمن في التكلفة، بحسب د. أنتوني وود، المهندس المعماري في "معهد ايلينوي للتقنية" في شيكاغو والمدير التنفيذي لمجلس الأبنية العالية المناطق الحضرية الذي يسجل الارتفاعات الرسمية لناطحات السحاب.وفي الوقت الراهن يعتبر "برج خليفة" في دبي الذي اكتمل في سنة 2010 ويصل ارتفاعه إلى 828 متراً، هو البناء الأعلى في العالم مطيحاً بـ"برج تايبيه 101" الذي احتل القمة سابقاً بارتفاع 508 أمتار. ويبلغ ارتفاع "برج ساعة مكة الملكي" في مكة المكرمة البالغ ارتفاعه 601 متر والذي اكتمل بناؤه في سنة 2012، وهو ثاني أعلى بناء على مستوى العالم. أما "برج الحرية" في مانهاتن، الذي يجري تشييده حاليا، بالقرب من برجي "التجارة العالمية" (417 و415 متراً على التوالي) الذين تعرضا للتدمير في عملية إرهابية دبرها تنظيم "القاعدة" في الحادي عشر من سبتمبر 2001، فقد أعلن في شهر مايو الماضي أن ارتفاعه سيزيد عن سابقيه ليصل إلى 541 متراً. علاوة على ذلك فقد تم بدء العمل في تشييد "برج المملكة" في مدينة جدة السعودية، لم يتم الإفصاح حتى الآن عن ارتفاعه الذي يظل سراً، غير أن التوقعات تشير إلى أنه سيصل إلى ارتفاعه إلى كيلو متر على الأقل.ويشير د. وود الخبير المعماري إلى أنه مع توافر ميزانيات وفيرة فإن ذلك سيجعل بالإمكان تشييد ناطحات سحاب يصل ارتفاعها الى ميل واحد أي أكثر من 1600 متر، وحتى مع استخدام الألياف الكربونية في تقنيات المصاعد في ناطحات السحاب، فإن القليل من المصاعد التي يمكنها بدء الرحلة من صالة الاستقبال أسفل البناية وصولاً إلى سطحها في الأعلى مرة واحدة دون الحاجة إلى التوقف مرات عدة لتغيير المصاعد، فقد يتم الاكتفاء بمرات توقف أقل لمرتادي المصاعد في ناطحات السحاب الشاهقة.المصعد الفضائيمن المألوف رؤية تلك الترتيبات الخاصة بتوقف المصاعد في الهواء أثناء الصعود في ناطحات السحاب والبنايات الشاهقة الارتفاع نظراً لتنوع طبيعة الأدوار بها بين مكاتب وفنادق وشقق سكنية، حيث تبدو المصاعد بها كما لو كانت صواريخ متعددة المراحل، غير أن استخدام الألياف الكربونية في مصاعد البنايات الشاهقة سيسمح بأن يجعل تلك المراحل أكثر طولاً أيضاً.علاوة على دخول الألياف الكربونية في تصنيع حبال المصاعد الفائقة "الألترا روب"، فإن حدود استخدامها لن تقتصر على المباني، فمثلما هي الحال في أفلام الخيال العلمي، فإن المبتكرين بوسعهم الآن مد خيالاتهم إلى ما هو أبعد مثل ابتكار "مصاعد الفضاء"، التي كانت تراود أحلام البعض في أواخر الخمسينيات، يكون بوسعها الوصول إلى المدارات الفضائية دون استخدام صاروخ.ويعني تشييد "مصعد فضائي"، أن يتم تنزيل حبال أو كابلات مصنعة من الألياف الكربونية من أحد الأقمار الصناعية الموضوعة في مدارات حول الكرة الأرضية، في الوقت الذي يتزامن ذلك مع نشر كابلات توازن متنوعة في الفضاء. لن يشبه الكابل الممتد من الأرض إلى القمر الصناعي في تركيبه حبال "الألترا روب" المبتكرة من الألياف الكربونية التقليدية المقرر استخدامها في المصاعد التقليدية، لأنها لن تحتاج إلى الحركة في حد ذاتها، لكنها ستقوم بوظيفة تحاكي الروبوتات الآلية المستخدمة في تصنيع السيارات وتجميعها، بحيث تساعد على نقل الناس والمعدات من الأقمار الصناعية المرتبطة بها وإليها لتسبح وتتجول في الكون.بالطبع هناك الكثير من العراقيل لبناء مثل تلك المصاعد الفضائية، لكن في ضوء اكتشاف مادة خفيفة وقوية بما فيه الكفاية للقيام بدور الكابل الفضائي، ربما تكون الحلول قد ظهرت للتو من مختبر صغير يقبع على قمة منجم في مدينة لوهجا النائية في فنلندا، حيث أجريت اختبارات الابتكار الجديد لحبال الألياف الكربونية الفائقة "الألترا روب" التي قد تفتح آفاق السباحة والتجوال في "مصاعد الفضاء"!