الجريدة•... شاهد عيان على حادث شهيد «الاتحادية»
أوصى صديقته بألا تخاف قبل أن يتلقى رصاصات الغدر
كانت الساعة التاسعة مساء الجمعة الماضية حين بدأت قوات الأمن المركزي المصرية الخروج من حدود قصر الرئاسة بضاحية مصر الجديدة، شرق القاهرة، والتوجه إلى الشوارع الرئيسية، مُطلقة وابلاً من قنابل الغاز المسيِّل للدموع وطلقات الخرطوش، وبينهما طلقات رصاص حي على أوقات متباعدة نسبياً.كانوا أربعة أصدقاء، محمد حسين قرني، الطالب في جامعة القاهرة، والشهير بـ "كريستي"، وصديقه رامي إسماعيل، والصديقة تغريد طلبة، وأنا، حيث لم تكن تلك المرة الأولى التي تجمعنا فيها التظاهرات، ورائحة الغاز وأشباح الموت، ففي الذكرى الثانية لثورة 25 يناير نزلنا معاً إلى ميدان التحرير، حيث "كريستي" دائم الوجود في الميدان، منذ اليوم الأول في الثورة 25 يناير 2011.
سيطر علينا جميعاً الهلع، بعدما سمعنا طلقات الرصاص الحي والخرطوش، التي كانت تدوي وتصل إلى النوافذ الزجاجية للعمارات القريبة في أحد الشوارع المقابلة لقصر الرئاسة "الاتحادية".حاول محمد، وهو يرتدي القناع الواقي من الغاز، أن يبقينا أنا وتغريد بجانب كشك صغير خوفاً من أن يصيبنا مكروه، وقال لنا: "محدِّش يتحرك من هنا لحد ما آجي". أعطاني حقيبته، ونزع القناع وأعطاه لصديقه رامي، الذي كان الإعياء يظهر عليه نتيجة استنشاق الغاز المسيل للدموع، وقبل دخوله وسط الاشتباكات ربت كريستي على كتف صديقته بنبرة راجية وابتسامة هادئة، رسمت على ملامحه، "متزعليش مني وإياكي تخافي".على مسافة أكثر من 20 متراً، رأيت من يرتدي ملابس "الأمن المركزي"، وينزل من المدرعة الخاصة بالشرطة، مصوباً بندقيته في اتجاه المتظاهرين، الذين كان بينهم أطفال ونساء.فجأة تجسَّد الخوف أمامي، حين رأيت مَن يخترق الزحام حاملاً محمد، صارخاً في الجميع بأعلى صوته وملامحه يملأها الخوف: "إسعاف الحقونا... إسعاف".لعدة دقائق دارت الدنيا بنا، ونحن نحاول إنقاذه، كانت هذه الدقائق كافية لكي يكون مرفق الإسعاف في مصر -بالنسبة إلي على الأقل- بلا جدوى، فقد لفظ محمد أنفاسه الأخيرة فور تلقيه رصاصتين، إحداهما استقرَّت في رقبته، والأخرى في الجانب الأيمن من صدره.صعدنا نحن الثلاثة سيارة الإسعاف، حاملين رابعنا، الذي بات الآن يحمل لقب "شهيد"، غارقاً في دمائه، بينما تستند تغريد إلى جدران السيارة، وهي تقول بحركات هستيرية: "مالك مالك يا كريستي مالك...؟ ما تسبوش دمه ينزل على الأرض"، لكن كل شيء أصبح رخيصاً، فقد خرج السر الإلهي وانتهى الأمر، وعندما بدأت السيارة رحلتها كانت عبارة الشاعر الفلسطيني محمود درويش، ترن في أذني: "على هذه الأرض... ما يستحق الحياة".