ثقافة الصمت

نشر في 27-05-2013
آخر تحديث 27-05-2013 | 00:01
 فوزية شويش السالم لا أدري إن كان هناك من اكتشف ثقافة الصمت التي ربما قد تبدو غريبة على البعض منا، خاصة من لم يكتشفها ويحس بها ويتلمسها في كل ما حوله من معطيات حياتية وسلوكية في حياته اليومية.

ثقافة الصمت هذه نعمة عظيمة ينعم بها الله على تلك الشعوب التي تقدس وتدرك مزاياها، فتعكسها في سلوكها وعاداتها الحياتية اليومية في التعاطي وفن التعامل مع بيئتها والطبيعة التي تعيش في محيطها، وكل من يحيا فوق سطحها وما حوله وما في باطنه وما في ما عليها من حيوان ونبات وبشر.

فضيلة ثقافة الصمت هذه تتجلى بوضوح تام مع الشعب الإنكليزي في إنكلترا مع استبعاد عاصمتها لندن التي دُمرت بهذا الخليط البشري من ما هب ودب من شعوب العالم الهاربة من أوطانها أو المنبوذة من بلادها، سواء كانوا من طبقة واعية أو من مهمشي العالم الثالث، أو من البلاد الأوروبية التي بدأ ينحسر اقتصادها الذي انعكس على بريطانيا، التي مازالت فاتحة صدرها لمنكوبي العالم على حساب دافعي الضرائب من مواطنيها، ومن اقتصادها الذي بدأ بدوره يئن من ثقل الواقع الجديد.

ثقافة الصمت هذه يمارسها الإنكليزي في سلوك راسخ تربى عليه ومتوارث أبا عن جد، وتفرض وجودها وشكل تعاطيها حتى مع الغريب عنها، وأكثرها وضوحا هو علاقته مع الطبيعة وبيئته فيها، فالنمو السكاني فيها لا يأتي على حساب الطبيعة بشكل سافر، فهذا شيء مرفوض، حتى ان التوسع العمراني لن يأتي على حساب غاباتها أو تغير تضاريسها، أو تلويثها بضجيج قطارات سريعة أو أي نوع كان من مسببات الضجيج وملوثات البيئة فيها، المدن تُخطط باقتطاع جزء من وسط الغابة بحيث تبقي الغابة كإطار يحيط بها من دون أن تقضي عليها أو تضر بشكل تام ببيئتها، مما يطوق المدن بروح السكينة الممتدة من طبيعتها، فأين ما اتجهت أنت محاط بروح الغابة وصمت طبيعتها، ومع هذا تجد اللوحات الإرشادية التي تطلب الصمت من العابر فيها والاستماع فقط لأصواتها.  

الصمت معلم من معالم الروح الإنكليزية، فالصوت العالي غير موجود سواء كان صادرا من البشر أو السيارات أو أي شكل من أشكال المزعجات الآلية أو حتى الحيوانية، فالكلاب كلها مدربة على السلوك المهذب الصامت ومن النادر سماع نباحها، بل من النادر جدا سماع أصوات الحيوانات مثل قطعان الأبقار والخرفان التي تملأ السهول والتلال البريطانية على مد البصر، حالة غريبة كل المخلوقات لا تصدر أصواتا عالية من الإنسان إلى الحيوان، الكل يحيا بصمته فلا أصوات تتعالى في الشوارع ولا في المحلات ولا في السوبر ماركت، الهمس أو الإيماءة هو الماركة المسجلة للكل، رغم الشوارع والطرق الضيقة التي أكبر شارع فيها مثل الطرق السريعة والتي لا تتسع لأكثر من 3 سيارات في الذهاب ومثلها في الإياب، ليست إلا بمساحة الشارع الداخلي الذي يمر ببيتي، ومع هذا تنثال فيه السيارات والشاحنات مثل نهر ساكن بهدوء تام، من دون تقاتل أو سباب أو تجاوز أو أي نوع من أنواع المخالفات المرورية أو المفاجآت التي يتفنن بها الشباب بسياراتهم التي تجعل من الشوارع ساحات للموت والدمار البدني والعصبي.

الشخصية الإنكليزية حالة نادرة من الهدوء والتروي المتأمل الناتج من سلوك اعتاد على الانسجام والاحترام والتجانس مع الطبيعة التي تحضنه، فلا يعمل على تغييرها ولا على تغيير نفسه، ومهما طال الزمن ستبقى كل نبته في مكانها لن يغير شكلها ولن تُخرب بيئتها، وسيجد الزائر كل عشبة في مكانها مهما طال بعد زمن زيارته عنها، وستبقى طيورها هي المخلوقات الوحيدة التي تعلو أصواتها المزقزقة في صمت كل ما حولها.

الصمت هنا يعني رهافة حسن التعلم والامتصاص لكل حركة نبض لتدفق الحياة بكل شواردها، والقدرة على التمتع والإحساس العالي بقنصها واستعذاب لذاذاتها التي لا تشتغل ولا تدر بكنوز معارفها إلا إذا أصبح الصمت سمة وطابعا لشعب يقدر ويفهم ما معنى أن يستنطق من صمت ضجيجه وضوضاء حياته ثقافة الغوص للعيش في أعماق روح ومغزى ما حوله وقطف ثمار معارف يضيعها الصراخ والصوت العالي وضجيج حياة واهم.

back to top