عرفنا {الصحافة الاستقصائية}، لكن المخرجة اللبنانية الشابة إليان الراهب، ومعها السيناريست والمنتج نزار حسن، وضعا أيدينا، من خلال الفيلم الوثائقي {ليال بلا نوم» (128 دقيقة)، على نوع جديد من السينما الاستقصائية» أماط اللثام عن الغموض الذي اكتنف واقعة كلية العلوم اللبنانية، في 17 يونيو عام 1982، وراح ضحيتها 20 شاباً بعد صراع ضار بين الأطراف المتناحرة (القوات اللبنانية وحركة أمل) إبان الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1991). كذلك توصل الفيلم إلى واحدة من المقابر الجماعية التي خلفتها الحرب الأهلية اللبنانية.

Ad

يتوقف الفيلم عند أسعد الشفتري، الرجل الثاني في استخبارات ميليشيات القوات اللبنانية التي كان يقودها بشير الجميل إبان الحرب، وتورط في جرائم خطف وعنف وتصفية جسدية. وبحسب الفيلم، ارتكب الشفتري مذابح بشعة في حق الإنسانية ثم عاد وأعلن رغبته في التخلص من ماضيه الملوث، والتطهر من الآثام التي اقترفها؛ بعدما شعر بأن قانون العفو العام الذي أصدره البرلمان اللبناني في أبريل من عام 1991 أسقط جميع التهم عن المتورطين في الجرائم التي ارتكبت على امتداد الحرب الأهلية. لم يخف إحساسه بأن ضميره يؤنبه وقرر بعد سنوات اكتشف خلالها أنه كان ضحية  قناعات وطنية ودينية زائفة، أن يُعلن اعتذاره من الرأي العام اللبناني عن الجرائم التي ارتكبها في حقه. وهو الخيط الذي التقطته المخرجة وصنعت فيلماً مثيراً عن ذلك الرجل الخمسيني الذي اعترف بأنه ذبح بنفسه أحد خصومه ليثبت لمن كان يتعامل معهم بأن يديه ملطختان بالدم مثلهم، ووقع في غرام النشيد الوطني الفرنسي وردد كلماته، بأكثر مما أحب وردد النشيد الوطني اللبناني. بل أكد، بخجل، بأنه احترم قوة إسرائيل وعاش يحلم بها، ولم يتردد، وهو عضو في القوات التي مولتها أن يتلقى دورة عسكرية مع جنودها، ويجد متعته في الأغاني الغربية، ولا يستسيغ الأغاني العربية، على عكس زوجته التي عشقت فيروز وصباح وامتلكت صوتاً جميلاً ولكن زوجها قمعها، كما فعل مع كثيرين غيرها، محتمياً ومؤمناً بقائده بشير الجميل، الذي كان يحلم بلبنان «وطن قومي مسيحي»، وباغتياله مات الحلم المسيحي، وهو ما عبرت عنه زوجة أسعد بقولها: «أعيش بلا ماض ولا مستقبل، وأشعر بتعاسة، وبأنني مُبعدة كالفلسطينيين بالضبط»!

اعتذر أسعد عن جرائمه، لكنه ما زال يحتفظ في ركن ما في منزله بالمسدس الكريستال، ويرفض الإدلاء بما لديه من معلومات غاية في الأهمية، وعلى رغم انكساره ونظراته الحزينة التي لا نعرف معها إن كان صادقاً في توبته أم أنه مراوغ و{كاذب محترف» بحكم المهنة؛ فإنه يعجز عن مواجهة «مريم سعيدي» التي تبحث عن ابنها الشاب الذي راح ضحية الصراع بين الأطراف المتناحرة (القوات اللبنانية وحركة أمل) في موقعة كلية العلوم، وترفض طوال ثلاثين عاماً أن تصدق أن ابنها مات إلا إذا عرفت ظروف وفاته أو دلها أحد على مكان جثته، وهو الاتهام الذي يظل معلقاً برقبة الجميع. غير أن «مريم» وجدت نفسها مُطالبة بألا تستمر في التحريض على فتح الملفات «القديمة»، أو تُلح في الدعوة إلى إقرار العدالة، لكنها أبت إلا أن تواجه «الجلاد»، ورفضت أن تدخل معه في حوار عقيم ما لم يدلها على مكان ابنها.

في هذه الأجواء المشحونة بالغضب، توظف المخرجة ببراعة ووعي كلمات أغنية «يا مسافر وحدك»، تحديداً المقطع الذي تقول فيه نجاة الصغيرة: «على نار الشوق أنا ح استنى وأصبر قلبي وأتمنى على بال ما تجيني... واتهنى»، ثم تُقدم لقطة مؤثرة لصور المفقودين والمخطوفين في حقيبة شاحنة تنقلهم من المعرض، وعيونهم تتطلع فينا، وكأنها تستصرخنا أن نتحرك لتحديد مصائرهم أو تتوجه إلينا بأصابع الاتهام بأننا السبب في ما حل بهم!

منحت المخرجة الفرصة للجلاد ليعلن تبرؤه من ماضيه، لكنها لم تتوقف عن ملاحقته بالأسئلة القاسية كي لا يراوغ أو يتملص؛ فالمخرجة تُدرك أنه يُخفي جانباً من الحقيقة (عبرت عن المعنى بمشهد في المرآة يظهر فيه بوجهين)، وأنه يستدر عواطف الناس. ولكنها لم تكتف بإدانة «الرجل الثاني»، بل لاحقت رفاقه في الميليشيات، وأقنعت قيادي سابق، رفض الكشف عن وجهه، بالإدلاء بما لديه من معلومات خطيرة تقودها والكاميرا إلى ساحة ملحقة بكلية العلوم تضم رفات الضحايا.

فتحت إليان ملفاً شائكاً ووظفت سلاح السينما لفهم الواقع الملتبس؛ إذ أدركت أن «الصفح» أو «العفو» لا يعني نسيان الضحايا أو تجاهل مصير المخطوفين والمفقودين، وسعت إلى الكشف عن الجوانب الخفية في الحرب الأهلية، وبحث تداعيات الحرب على حاضر المجتمع اللبناني ومستقبله، والأهم اجتثاث الأزمة من جذورها قبل أن تنمو وتستفحل من جديد!