حتمية سرد السياسة الاقتصادية

نشر في 22-04-2013
آخر تحديث 22-04-2013 | 00:01
 بروجيكت سنديكيت كانت أفضل نصيحة تلقيتها عندما توليت مسؤولية صنع السياسات في تركيا قبل أكثر من عشرة أعوام تتلخص في ضرورة "إنفاق الكثير من الوقت والجهد والرعاية لتطوير ونقل السرد اللازم لدعم البرنامج السياسي الذي تريد له النجاح". فكلما كانت هذه السياسة الاقتصادية عُرضة لقدر أعظم من المناقشة العامة- أي كلما كانت الديمقراطية أكثر رسوخا- كان السرد السياسي أكثر أهمية.

وتشكل الأزمة التي يواجهها الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو مثالاً واضحاً للحاجة إلى سرد قادر على تفسير السياسة العامة وتوليد الدعم السياسي لها، ولا يكون السرد الناجح مفرطاً في التعقيد أو التبسيط، بل لا بد أن يأسر مخيلة الناس، ويعالج هموم الجماهير، ويولد أملاً واقعيا، فالناخبون يستشعرون عادة الشعبوية الرخيصة.

والواقع أن رئيس البنك المركزي الأوروبي ماريو دراجي قدَّم مثل هذا السرد للأسواق المالية في شهر يوليو الماضي، فقال إن البنك المركزي الأوروبي سوف يقوم بكل ما يلزم لمنع تفكك اليورو، مضيفاً ببساطة: "صدقوني، سوف يكون ذلك كافيا".

بهذه الجملة، أزاح دراجي خطر إعادة التقييم الذي كان عند أعلى مستوياته في حالة اليونان، ولكنه كان يدفع تكاليف الاقتراض في إسبانيا وإيطاليا والبرتغال أيضاً إلى الارتفاع، ولم تكن الرسالة شعبوية، لأن البنك المركزي الأوروبي يملك حقاً القوة اللازمة لشراء الكم الكافي من السندات السيادية في السوق الثانوية لوضع سقف لأسعار الفائدة، على الأقل لعدة أشهر. إن محافظي البنوك المركزية قادرون بشكل أكثر عموماً عادة على توفير أشكال قصيرة أو متوسطة الأمد من السرد للأسواق المالية. كما قدم رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي بن برنانكي تعهداً خاصاً بأن أسعار الفائدة القصيرة الأجل في الولايات المتحدة سوف تظل منخفضة للغاية، ومؤخراً قدم رئيس بنك اليابان الجديد هاروهيكو كورودا نسخة أخرى من هذا التعهد عندما قال إنه سوف يضاعف المعروض من النقود حتى يرتفع التضخم إلى 2%.

وفي حين يستطيع محافظو البنوك المركزية تقديم مثل هذا السرد للأسواق المالية، فإن الزعماء السياسيين هم الذين يتعين عليهم أن يقدموا الرسائل الاقتصادية الاجتماعية الكلية التي تشجع الاستثمار الحقيقي الطويل الأجل، والدعم الانتخابي للإصلاح، والأمل في المستقبل. إن كيمياء البنك المركزي، على حد تعبير الصحافي الأميركي نيل إروين في كتابه الجديد، ليست بلا حدود.

تحتاج أوروبا بشكل خاص إلى سرد قادر على بث الأمل في الأمد البعيد في التعافي الحقيقي، وتقترب فرنسا من منطقة الخطر، وحتى نمو الناتج المحلي الإجمالي في ألمانيا انخفض إلى أقل من 1% سنويا. ومن ناحية أخرى، لا يقدم تخفيف الفوارق في أسعار الفائدة على الديون السيادية الارتياح المطلوب لجيش متنام من العاطلين عن العمل في جنوب أوروبا، حيث ارتفعت معدلات البطالة بين الشباب إلى عنان السماء- نحو 60% في اليونان وإسبانيا، و40% تقريباً في إيطاليا.

وينبغي لهذا السرد أن يجيب عن ثلاثة أسئلة أساسية، كيف يمكن إصلاح النموذج الأوروبي من التضامن والأمن الاجتماعي القوي مع الحفاظ على استمراره؟ وكيف يمكن إحياء النمو الاقتصادي ودعمه في مختلف أنحاء الاتحاد الأوروبي؟ وكيف تستطيع مؤسسات أوروبا أن تعمل بقدر معزز من الشرعية لاستيعاب الدول التي تشترك في اليورو وغيرها التي احتفظت بعملاتها الوطنية؟ بادئ ذي بدء، لابد من ثورة في تنظيم العمل، والتعلم، والترفيه. وينبغي للتضامن الاجتماعي، الذي يشكل ضرورة أساسية للهوية الأوروبية، أن يشمل حياة عاملة أطول، ولكن أيضاً المزيد من تقاسم العمل، وتعليم البالغين، ومتوسط أسابيع عمل أقصر (وخاصة مع الاقتراب من سن التقاعد).

ومثل هذه المرونة تتطلب موافقة الجميع: فيتعين على الموظفين أن يتكيفوا مع المتطلبات المتغيرة؛ ويتعين على أصحاب العمل أن يعيدوا تنظيم مؤسساتهم بحيث تسمح بالمزيد من تقاسم العمل، والعمل من المنزل، وفترات التعليم؛ ويتعين على الحكومات أن تعمل على إصلاح النظام الضريبي، ودعم الدخل، والتنظيمات من أجل الترويج لـ"ثورة تضامن مرنة" تشجع الاختيار الشخصي وتحمل المسؤولية، مع استمرار الالتزام بالتماسك الاجتماعي. ومن الممكن أن يؤدي هذا إلى مستقبل أفضل للجميع، مع اكتساب المواطنين للمزيد من القدرة على الوصول إلى التعليم للبالغين، والتمتع بقدر أكبر من وقت الفراغ لملاحقة الاهتمامات الشخصية، والحفاظ على الإنتاج والمشاركة المهنية لفترة أطول من حياتهم التي ينعمون فيها بالصحة.

إن أوروبا لا تحتاج إلى تحقيق نفس معدلات النمو الاقتصادي الآسيوية، فهي قادرة على تأمين الوظائف اللائقة والازدهار، بمعدل نمو سنوي مستمر يبلغ نحو 2%. ولتحقيق هذه الغاية، فلا ينبغي للساسة أن يخبروا الناخبين الألمان أن موارد بلادهم سوف تتدفق إلى الأبد إلى إسبانيا، فهم يريدون أن يسمعوا أن أجورهم سوف ترتفع بضعف معدل الماضي القريب من دون المجازفة بارتفاع معدلات التضخم أو حدوث عجز في الحساب الجاري، لأن ألمانيا لديها أضخم فائض خارجي على مستوى العالم.

ولابد من فتح صناعات قطاع الخدمات في مختلف أنحاء الاتحاد الأوروبي. ويتعين على الدول التي تتمتع بمواقف مالية أكثر قوة أن تأخذ زمام المبادرة في برنامج كبير لترقية المهارات على مستوى أوروبا بالكامل. ولابد من مضاعفة عدد المنح الدراسية في عموم أوروبا. وينبغي للبرامج المدرسية في كل مكان أن تستهدف تعليم وتوعية مواطنين يتحدثون ثلاث لغات.

ولابد فضلاً عن ذلك من إنشاء نظام مصرفي أوروبي كامل يتمتع بموارد مشتركة للحل، ومن دون تأخير. وينبغي لبنك الاستثمار الأوروبي، الذي تلقى زيادة رأسمالية كبيرة في عام 2012، أن يضيف برنامجا ضخما لدعم الاستثمار في الشركات المتوسطة الحجم، في ظل إعانات دعم يتم تمويلها من الميزانية الأوروبية لتشجيع المتقدمين للعمل لأول مرة لفترة محدودة. ولابد أن يكون توفير الوظائف والتدريب للشباب في قلب ميثاق النمو الجديد، وأن تمضي المشاريع قدماً على "وضع الأزمة" وليس وفقاً لأسلوب العمل كالمعتاد.

وأخيرا، في حين يحتاج الاتحاد النقدي بوضوح إلى قدر أعظم من تقاسم السيادة، فلابد أن تنشأ أيضا "أوروبا الأكبر" التي تضم المملكة المتحدة وغيرها من البلدان. وهذا يعني ضمناً ضرورة وجود مؤسسات ذات مستويين ويمكنها استيعاب نوعين من البلدان: الملتحقة بعضوية اليورو، وتلك التي تفضل الاحتفاظ بسيادتها النقدية في أوروبا الأكبر المقامة حول سوق مشتركة نابضة بالحياة وقيم ديمقراطية مشتركة.

لابد من تحقيق هذه الرؤى المترابطة إذا كان لأوروبا أن تعود إلى الازدهار من جديد. والواقع أن هذه الرؤى مجتمعة تشكل سرداً مقنعاً ينبغي لزعماء أوروبا أن يعملوا على تفصيله وتوضيحه.

كمال درويش

* وزير الشؤون الاقتصادية التركي السابق، والمدير الإداري لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي سابقا، ونائب رئيس مؤسسة بروكنجز حاليا.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top